منوعات
بيروت تريد” زينة وناس، صوت ولاد، صوت جراس عم بترنّ بعيد
جوزيفين حبشي
في أسواق بيروت هذا العام، تُضيء الزينة شوارع المدينة… لكن الضوء لا يشبه الضوء الذي عرفناه يوماً. زينة لامعةٌ مستوردةٌ من وراء البحر، تصاميم مأخوذة بحرفيّة من تقاليد Luminarie الإيطالية. جميلة؟ ربما، فالجمال نسبي، ولكنها حتماً لا تُشبه بيروت، ولا تُشبه ذاكرة العيد التي كبرنا عليها، ولا صوت فيروز وهو يرتل: “ليلة عيد ،ليلة عيد ،الليلة ليلة عيد، زينة، أولاد، وصوت جراس عم بتدق بعيد”.
قد تكون الزينة فخمة وغالية الثمن، لكنها لا تنسجم مع نبض مدينة لم تكن يوماً نسخة من مدينة أخرى. بيروت، بكل جراحها وأحلامها، تحتاج إلى زينة تحمل شيئاً من روحها، من ترابها، من ذاكرتها، ومن موسيقاها الخفية التي لا يسمعها إلا أهلها. هذا هو العيد الذي نعرفه… عيد يصنعه الناس، لا الشركات.
في هذا الزمن الذي اجبرنا أن نتذوّق طعماً من الغربة عن كل ما عشناه، نفتّش بين الأضواء عن نجمة الميلاد التي كنا نراقبها من نافذة مطرّزة بالثلج، عن مغارة تُجسّد التواضع قبل الفخامة، عن شجرة تلمع بفرح بسيط، وعن وجه سانتا الذي يزرع البسمة في قلوب الأطفال، حتى ولو قدّم لهم حبة “بون بون” بنكهة الكرز، وليس حذاءً فاخراً من “إيشتي”. نفتّش عن معنى العيد كما ورثناه: ولادة طفل في مزود، ولادة نور في قلب العتمة، ولادة رجاء في زمن مثقل بالأعباء.
وبيروت… بيروت هذه المدينة التي نزفت كثيراً وما زالت تلملم شوارعها وناسها وأحلامها، تُشبه في هذا العيد ذاك الطفل الصغير في المغارة: ضعيفة في ظاهرها، لكنها تحمل في داخلها قوّة الميلاد. بيروت تنتظر ولادتها من جديد، تنتظر لحظة النور التي ستشقّ ظلامها، تنتظر أن تعود كما كانت: حقيقية وأصيلة، لذلك، مهما بدت الزينة دخيلة أو غريبة، يبقى العيد في بيروت ليس ما يُعلَّق على الأعمدة، بل ما يضطرم في القلوب: ابتسامة طفل، خبزة تتقاسمها عائلة، صلاة أمّ، يد تُمدّ لجار، تراتيل ميلادية، “قلبي مهيّا مغارة، ربي اعملي زيارة”، “تلج تلج، عم بتشتي الدنيي تلج”، فرحة أطفال بلعبة من متجر “بابا طوني” في الحي المجاور، عودة شباب سافروا وراء الأمان والمستقبل وعادوا لأن الميلاد عائلة وماضٍ مليء بأجمل الذكريات، وإيمان شعب بأن النور سيعود.
في عيد الميلاد، الكافيار طيب، وخبز البانيتوني الإيطالي المُحلّى والمحشو بالفواكه المجففة لذيذ، والأجبان المستوردة شهيّة، وكبد البط المُسمّن لا يُثمّن، ولكن لا شيء يوازي دجاجة أو حبشة محشوة بالأرز والجوز والزبيب الذي قامت التيتا بتجفيفه في أيلول، وجاط تبولة مع برش الحامض وصحن الحمص الذي لطالما اعتبره أبي ملك المائدة ومن دونه لا عيد ولا بلوط. نريد أن نتحلّى بكاسة مغلي مع برش جوز الهند فرحاً بولادة المسيح والمعنى الحقيقي لولادة الرجاء من جديد. لقد شبعنا محليات باردة لا تشبهنا مثل Marrons Glacés. نريد شجرة مزيّنة بالقطن وأجراساً تطنطن في البعيد، عيداً يشبه العيد الذي كبرنا عليه، والذاكرة التي تربّينا فيها على نور بسيط وطابع لبناني يعرفه القلب قبل العين. ليس لأننا منغلقون أو عنصريون، فلبنان كان وسيظل بلد الانفتاح، بل لأننا نحتاج لتذكير أنفسنا بمن نحن، بما يميزنا، بما يصنع فرادتنا، بعدما عصفت بنا رياح عاتية وشلّعت جذورنا. لذلك، نحتج على زينة قد تكون جميلة وباهظة الثمن، لكنها غريبة وتحمل روح مدن أخرى.
وهكذا، يبقى العيد في بيروت أكبر من أضواء تُعلَّق على الأعمدة، وأعمق من بهرجة تُستورد من بعيد. العيد هنا هو النبض الخفي الذي لا يموت، مهما تبدّلت المظاهر. بيروت التي تعثرت ولم تنحنِ، تعرف أنّ هويتها ليست سلعة تُستبدَل ولا تقليداً يُستورد، بل ذاكرة حيّة تنبض في قلوب أهلها. سنظل نبحث عن عيد يشبهنا، يشبه ترابنا وضحكاتنا وأغانينا، يصنعه الحب قبل المال، وتنسجه البيوت الدافئة قبل الشركات اللامعة. وسنؤمن أنّ نور الميلاد سيجد طريقه دائماً إلى هذه المدينة، لأن بيروت — مهما انطفأت — تحمل في داخلها شعلة لا تُطفأ، شعلة تنتظر لحظة لتتوهّج. وهذا هو العيد الحقيقي… عيد يولد من القلب، لا من الضوء