فن ومشاهير

تقلا شمعون: ممثلة ” بتسوى تِقلا ذهب”

Published

on

جوزيفين حبشي

في تاريخ لبنان ، “تقلتان” شمعون.  الاولى هي السيدة الاولى وزوجة “الملك” كميل شمعون( 1958-1952),  والثانية هي السيدة  الأولى للشاشة الصغيرة والدراما اللبنانية والعربية ، والملكة المتوّجة على عرش الاداء الطبيعي المعتمِد كليا على الاحساس والفهم لخلفيات كل شخصية، منذ التسعينات ولأعوام آتية بغلال أكثر وأطيب وانضج.

Screenshot

في زمن تكثر فيه الوجوه وتتشابه، تظل تقلا شمعون واحدة من القلائل القادرات على اختراع كل شخصية من الصفر، وكأنها تولد أمامنا كل مرة من جديد. بين مشاهد خاطفة في مسلسل “220 يوم”، وثلاثة مواسم كاملة في “عروس بيروت”، ورحلة سوداء في الرعب النفسي في “الزيارة”، واداء مغاير وغير تقليدي في مسلسل “٢٤ قراط” الذي نقلها بعيدا عن دور “الأم”، وصراع أمومة خانق في “سلمى”، تثبت تقلا شمعون  بالدليل الملموس تأثيراً، أنها لا تمثّل فحسب، بل تتنفّس الشخصية حتى الرمق الأخير. في “220 يوم”، أثبتت أن دقيقة واحدة من الأداء الصادق قد توازي مسلسلاً كاملاً. في “عروس بيروت”، كانت العمود الفقري للقصة. في ” ٢٤ قراط” كانت نفحة الاوكسيجين بشخصية جيهان المحللة النفسية التي لا تعتمد وسائل تقليدية، في “الزيارة”، تماهت مع الرعب حتى لم نعد نعرف من نُشاهد: الممثلة، أم الشخصية؟ في “سلمى”عاشت التمزّق الصامت بين ابنتين، وفي كل ادوارها برهنت انها ليست ممثلة بارعة فقط، بل صانعة حضور، وواحدة من أجمل وجوه الصدق الفني في الدراما اللبنانية والعربية الحديثة.

رغم تميّزها في كل ما قدمت لنا على الشاشة الصغيرة، اصبح لقبها ” ليلى الضاهر”، فدورها في اجزاء “عروس بيروت” الثلاثة ( المعرّب عن التركي)، لن يُمحَ ، لا من اذهان الجمهور العربي، ولا من التاريخ الذهبي للدراما العربية.

Screenshot

أم أرستقراطية صارمة، حاضرة كظل لا يفارق القصر، تعيش على قواعد محددة لا تقبل المساس بها ، منها فكرة النسب، السمعة، واحترام “الاسم العائلي”. هي matriarch العائلة، والدة فارس وأشقائه، وسيدة القصر التي تُمسك بخيوط العائلة والبيت والتقاليد بقبضة من حديد. تتحكّم ليلى في قرارات أبنائها وتدخل في كل تفاصيل حياتهم، لكن خلف هذا التحكم خوف دائم من تفكك العائلة، ومن فقدان السيطرة على ما تبقى من إرث زوجها الراحل. تتصرف أحيانا بدهاء ودهشة، خاصة حين تشعر بأن هناك من يهدد مكانتها أو  استقرار العائلة. لا تتردد في استخدام الخداع أو التأثير العاطفي لفرض رأيها. ومع مرور الأحداث، تتفكك صورة ليلى الصلبة تدريجيا. تكشف الصراعات أن كثيرا من مواقفها لم تكن عنادا بل خوفا من الانهيار. في لحظات فقدان أو خيانة، تتحول إلى امرأة وحيدة وهشة، لكنها لا تعترف بضعفها. يتراجع تأثيرها شيئا فشيئا أمام استقلال أبنائها، وخصوصا أمام قوة شخصية ثريا.ويحصل التبدّل الكبير عندما تستعيد حب حياتها، وتقرر أن تضرب عرض الحائط ما كانت تتمسك به من تقاليد واعراف وعيب ، مقابل عدم اضاعة  فرصة السعادة من جديد. تقلا شمعون أدّت هذه الشخصية المتعددة الابعاد بحرفية استثنائية: أم، أرملة، زعيمة بيت، خائفة من المستقبل، عاشقة اهداها القدر فرصة ثانية للسعادة، قبل ان يصفعها بالمرض الاقسى في الحياة، الزهايمر. هي رمز للمرأة التي تخاف الفقد، فتتشدّد. وتحب أبناءها، فتكاد تخنقهم. جسّدت الجبروت بلا مبالغة، وأظهرت الألم بدون دموع مفتعلة،  وادهشت بدور المرأة التي لم تغزو التجاعيد قلبها . لعبت دورا بطبقات عديدة ، بتوازن عميق بين القوة والضعف، فأبقت المشاهد في حالة حيرة: هل نحبها أم نكرهها؟ والحقيقة أن هذا التعقيد هو ما جعل “ليلى” شخصية أيقونية في الدراما العربية المعاصرة.

Screenshot

دورها في ” عروس بيروت” هو الاشهر، ( عرض على MBC  الواسعة الانتشار) ولكنه ليس الوحيد الذي قدمت من خلاله اداءً يصعب وصفه بكلمات. في جعبتها  مسلسلات عديدة واداءات رائعة لو اردت ذكرها كلها لاحتجت الى مجلّدات ، من ” باب ادريس” الى ” الطائر المكسور” ( الذي احبه كثيرا واحبها فيه كثيرا) و” جذور” و” ثورة الفلاحين” و” روبي” الذي اطلقها عربيا، و ” ٢٤ قراط”، وصولاً  الى “الزيارة”. هذا المسلسل مختلف. مسلسل رعب  قصير ( 8 حلقات) وهو من انتاج 2021، عرض على المنصات. فيه تخلّت تقلا شمعون عن كل ملامحها السابقة وجسّدت دور منى، سيدة تعيش في بيت مسكون، يُطارد بحكايات مرعبة. لكنّ الرعب هنا لم يكن خارجياً. بل كان يسكنها هي. بصوت متهدّج، وحركة بطيئة تشبه النوم الخائف، ونظرة مجوّفة من الداخل، استطاعت أن تجعل من شخصيتها رمزا للذنب والجنون والماضي الذي لا يموت. في مسلسل “الزيارة”، تقلا لم تمثل فقط. بل استخدمت جسدها كمساحة لعرض القلق، والخوف، والانكسار. تجربة أداء تُدرّس في الرعب النفسي الصامت.

Screenshot

أخيرا، شاهدت مرورها الرائع في مسلسل ساحر ، هو بحق من اجمل ما رأيت في الآونة الاخيرة،”٢٢٠ يوم” (من انتاج الصبّاح ومن اخراج كريم العدل ،وتاليف محمود زهران ، و سيناريو وحوار  نادين نادر و سمر بهجت، وبطولة كريم فهمي وصبا مبارك). في “220 يوم” مساحة دورها صغيرة جدا. هي والدة مريم، التي عادت بعد غياب طويل بسبب الإدمان. هي الحضور الصامت، والندم الإنساني المكتوم، والصوت المنخفض والنظرات المنكسرة. من خلال هذا الدور القصير، نجحت تقلا برفع التحدّي باختصار سنوات من الألم في لحظة واحدة. مشاهدها الموجزة تحوّلت أيقونة درامية، كشفت عمق الشخصية من دون أن تقول كثيراً. في هذا المرور الرائع،  تقلا عوّلت على الاقتصاد التعبيري، وراهنت على البصمة،  لا على التكرار. أداؤها في “٢٢٠يوم” يوازي القصيدة، التي تترك أثراً رغم قِصرها.

Screenshot

حالياً، لا ازال اتابعها في “سلمى”  بدور هويدا، أمّ تتمزّق بين ابنتين ووجعين  واسرار  دفينة، و لا تملك إلّا الصمت الذي تحمله على الشاشة كمن يحمل جبلاً. في هذا الدور، لا تلعب تقلا شخصية ضحية ولا جلاد. بل امرأة تواجه لحظة مستحيلة: كيف تحمي ابنة مريضة نفسيا  وحقودة، وكيف تُنصف ابنة مريضة جسديا ومظلومة؟ تقلا شمعون تجسّد هذه المعضلة الأخلاقية العاطفية بأداء مدهش في هدوئه، مذهل في صدقه وطبيعيته. كل مشهد لها في “سلمى” يبدو  وكأن الزمن يتوقف، كي نستمع إلى همس أمّ تحترق من الداخل.

رغم التباين الكبير بين هذه الأدوار الاربعة، يجمع بينها شيء واحد: الصدق العاطفي. سواء كانت أماً غائبة، أو  امرأة  فولاذية،  أو  امرأة تهمس للأشباح، أو أمّا تسير فوق قنبلة عائلية، تقلا شمعون لا تكرّر نفسها، بل تبني لكل شخصية بُنية نفسية وجسدية ولغوية مستقلة. تقلا شمعون لا تحتاج لمساحة حتى تبدِع، بل تحتاج للحظة فقط احياناً. هي ممثلة تفهم أن التمثيل ليس البقاء في الذاكرة فحسب، بل في الروح.  تقلا شمعون… كم نفتخر أنك لبنانية.

Screenshot

Exit mobile version