ثقافة
ختام حفل موركس دور، مسك المسرح
جوزيفين حبشي
كل الجوائز تُفرح القلب، ولكن ثمة جوائز تُشبهنا، تُلامس قلوبنا، تُنصف تعبنا، وتعيد الثقة بأن الفن الصادق لا يُهمَّش طويلًا. البارحة، في حفل توزيع جوائز موركس دور، كان الختام مسكاً، ولم تكن فرحتنا عابرة، بل كانت دفقة مشاعر حقيقية، لأن جائزة المسرح ذهبت إلى من يستحقها فعلًا: مسرحية “مجدّرة حمرا”.
حين حصدت المسرحية جائزة موركس دور عن فئة المسرح، لم نُصفّق لها فقط، بل صفّقنا للمسرح اللبناني حين يكون حقيقيا، للكلمة حين تكون من نبض الناس، وللفن حين لا يُجمّل الواقع بل يعرّيه بحبّ وصدق.
“مجدرة حمرا” ليست فقط مسرحية عن الزواج، والطلاق، والغربة، والطبخ… إنها عن الكرامة، عن الصبر الأنثوي، عن الهويّة، عن التاريخ الشخصي الذي يُصنع من تفاصيل صغيرة، لا يراها إلا من عاشها.
هذه المسرحية كانت ولا تزال وجعا يُروى على لسان النساء، وجائزة تُنصف المسرح الحقيقي. مسرحيّة محمّلة بحكايات نساء لا تُروى عادةً، لكنها هنا، على الخشبة، تأخذ حقّها من الضوء والكلمة والتصفيق. ثلاث نساء من النبطية، في انجو واحدة. كلٌّ منهنّ تحمل جرحها، وحلمها، وخيبتها. فاطمة الأرملة، التي تفهم الحياة من خسارتها، ومريم الكاتبة، التي تبحث عن ذاتها بين السطور، وسعاد، التي تطبخ المجدّرة لا لتُشبع البطون فقط، بل لتفتح قلب الرجل، وربما قلب الحياة. هذا العمل، الذي وقّعه الكاتب والمخرج يحيى جابر بصدق نادر، وقدّمته أنجو ريحان بأداء آسر، لم يكن مجرّد عرض مسرحي… بل كان صرخة. كان وجع الناس العاديين الذين لا تُروى حكاياتهم عادة، وكان نبض الشارع الذي لا يدوّي في الصالات المخملية. “مجدّرة حمرا” لم تكتفِ بأن تُضحكنا أو تُبكينا، بل جعلتنا نرى أنفسنا، وجعلتنا نُعيد النظر في معنى أن نكون من هذه الأرض، نحمل تناقضاتها وجراحها وأحلامها الصغيرة والكبيرة.
أنجو ريحان لم تؤدِّ فقط، بل تقمّصت الأرواح الثلاث، بحرفيّة الممثّلة وبحدس المرأة. تنقّلت بين الشخصيات كما يتنقّل الضوء بين شقوق الذاكرة، تُضحك وتُبكي، تُلامس وتُزعزع. انجو عاشت كل تفصيلة، كل تنهيدة، كل ضحكة مشروخة، وكل وجع مكتوم. كانت امرأة، وأمّاً، ومقاتلة، ومحبوبة، ومقهورة… كانت الوطن نفسه حين يتحدّث بلسان شعبه. أمّا يحيى جابر، فكتب وأخرج وكأنه يُنصت لصرخة قديمة من الجنوب، من البيت، من المطبخ، من المنفى الداخلي الذي تعيشه النساء في صمت. يحيى جابر، المسرحي “الطبيب الجرّاح “المتخصص في تشريح المجتمع اللبناني، لا يعالج من خلف مكتب، بل من عمق الشارع، من قلب الجرح، من دفاتر الناس المنسيين. لقد منحنا نصا متوازنا بين الألم والسخرية، بين الذاكرة والواقع، بين الهروب والمواجهة.
لهذا، لم تكن الجائزة مجرّد تكريم، بل كانت اعترافاً بأن المسرح لا يزال حيّاً، وأن الصوت الصادق يجد طريقه مهما علا الضجيج. كانت الجائزة لروح المسرح اللبناني حين يكون حقيقياً، جريئاً، حراً وشريفاً.
هذه الجائزة لم تُمنَح فقط لمسرحيّة ناجحة، بل لعملٍ عميق، حقيقي، يجعلنا نؤمن أن الحكايات الصادقة لا تموت، بل تجد دوما من يُنصت، ومن يُصفّق.
مسرحية “مجدّرة حمرا” المستمرة منذ اكثر من خمس سنوات والتي لا تزال تُعرض على خشبة مسرح مونو، تستحق كل التصفيق، وكل الإضاءة، وكل الجوائز، لأنها قالت ما لا يُقال، ولأنها أعادت المسرح إلى مكانه الطبيعي: بين الناس، ولأجلهم.
الف مبروك يحيى جابر وانجو ريحان، وفعلا كان ختام حفل موركس دور مسكاً البارحة
Screenshot
Screenshot