ثقافة

طربوشنا معلّق بالوطن

Published

on

جوزيفين حبشي


لم اشاهد مسرحية البارحة على خشبة مسرح مونو ، لقد استعدت حياة .

لم تكن طربوش جدّي معلّق مجرّد مسرحية شاهدتها والسلام… كانت مرآة. مرآة كبيرة وشفافة، وضعتني فجأة أمام طفولتي، أمام وجوه  اهلي وإخوتي، وأصدقائي، والحيّ الذي هُدم مرّات وبُني مرّات ، والشبابيك التي تشلّعت كالاحلام، فضحكنا عليها وعلى انفسنا وقززناها بالنايلون، والذكريات التي حاولنا أن نقفل عليها داخل درج… فإذا بها تُفتح كلها دفعةً واحدة، على… خشبة.

أنا من جيل الحرب. جيل الملاجئ، وجيل غريندايزر الذي كان يصدّ الصواريخ على الشاشة الصغيرة، ولكنه فشل في رد قذائف الاقربين والابعدين، الاعداء والاخوان  عن شاشة الوطن ، في الوقت الذي كنّا نحاول فيه نحن صدّ كل ما هو أكبر من عمرنا. انا من جيل موسيقى  “مكتب التحرير في خبر جديد” الذي كان اشهر من موسيقى اغنية ” كيفك عفراقي” لفضل شاكر اليوم ، وصوت مذيعات صوت لبنان  الذي كان أشهر من صوتيّ اليسا  ونانسي اليوم … صوتٌ يشبه صوت القدر.

البارحة فلفشت ألبوم صوري القديم، صفحةً صفحة، من أول الحرب في 1975 الى اليوم،  استرجعت زمناً  كنا نحفظ فيه أسماء الملاجئ أكثر من أسماء الشوارع، ونعدّ القذائف لا النجوم، ونترقب موسيقى ” مكتب التحرير في خبر جديد” أكثر مما ننتظر اليوم  اصدارا  جديدا لوائل كفوري.

Advertisement

من بوسطة عين الرمانة الى اجتياح بيروت، ومن حرب تموز، إلى الثورة، إلى تفجير المرفأ، إلى العدوان الإسرائيلي المستمر، إلى الانهيار الكامل،  هذه المسرحية تُعيد سرد حيواتنا نحن، كأنها تعرفنا شخصيا، وتعرف بأي زاوية من القلب نخفي الوجع.  ولكنها، رغم كل هذا الألم، تُضحكنا. لأننا نحن هكذا. نضحك من تحت الردم، نسخر من حياتنا كأنها ليست لنا.

ما عاناه  “هلاو”إبراهيم”، لم يكن غريبا عني، عنك، عنا. لقد عشناه، بكل تفاصيله الصغيرة: الحب الذي يولد بين انفجارين، الضحك الذي يُنتزع من بين الخوف، الحنين الموجع، الغربة التي بدأت قبل أن نغادر، والتمزّق اليومي بين أن تبقى لأنك تحب، أو ترحل لأنك لم تعد تقوى.

المسرحية ليست فقط عن “هلا” و”إبراهيم”، بل عني، عن اهلي و إخوتي و أصدقائي، عن كل من عاش هذه الذاكرة الجريحة الجميلة. عن كل من خبّأ تحت سريره كيساً صغيراً فيه أوراقه الرسمية تحسباً لهجرة، لنزوح، لغربة .  المسرحية عن الذي سافر، والذي بقي، والذي لا يزال عالقا بين الخيارَين.

منذ اللحظة الأولى، تشدّنا المسرحية إلى مكانٍ ما في قلبنا. لا تتركنا كمشاهدين محايدين، بل تسحبنا إلى عمق الوجع، إلى ذكرياتٍ عشناها أو سمعنا صداها في بيوت الأهل والملاجئ، في النشرات الإخبارية، وفي لحظات صمتنا بين ضجيج الأزمات.

هذه المسرحية ليست مجرد عرض على خشبة، بل مرآة صادقة تنعكس فيها ملامح كل لبناني تمزّق بين حلم الرحيل وجذور البقاء. بين باريس ومونتريال ودبي، تهاجر “هلا” من الحرب بحثاً عن السلام، بينما يبقى “إبراهيم” في بيروت، شاهداً على حكاية وطن لا يكفّ عن التغيّر والانكسار، لكنه لا ينهار تماما… كأنه نحن.

Advertisement

الحوار بين “هلا” و”ابراهيم” ليس فقط بين عاشقين فرقتهما الحياة، بل هو بين وجهَي لبنان: من غادر حاملاً الوطن في حقيبة، ومن بقي حاملاً حقيبة من الذكريات والخسارات. في كلماتهما، في صمتهما، وحتى في ضحكاتهما، وجعنا نحن، جيل تاه في النصف: لا رحل تماما ولا بقي كما كان.

مروى خليل وجنيد زين الدين لم يؤدّيا دورين، بل جسّدا روحا، وحالةً جماعية يصعب وصفها بدقّة، لكنها مألوفة بشكل موجع. أداء صادق، تلقائي، ينقلك بين الدموع والضحك كما هي حال اللبناني الذي يسخر من الألم لأنه لم يعد يملك سلاحا غيره.

كنتُ أسمع مروى خليل وجنيد زين الدين يتحدثان، لكنّي في الحقيقة كنت أسمع صوتي الذي رفض الرحيل، وصوت صديقي الذي لم يعد يحتمل ، فباع كل شيء ورحل. كنت أراهما يتحركان على الخشبة، وكأنني أرى  حياتي انا : ضحكاتي المرّة، انتظاراتي التي لم تنتهِ، صور  جدّي المعلّقة على الحيطان، والطربوش الذي لم يعد يُلبَس لكنه بقي شاهدا علينا.

في المسرحية، ديكورات ذكية وبسيطة ، تنقلنا فورا بين بيروت وباريس ومونتريال ودبي. ولكن المؤثر فعلا هي بيروت. كانت بيروت حاضرة كما لم تكن من قبل. بيروت الحقيقية، التي لا تسكنها الأغاني فقط، بل يسكنها الذين لم يستطيعوا أن يحبوها كما تستحق، ولا أن يكرهوها  كما  يجب. بيروت التي تهزّك، تُحزنك، تسكرك بالحنين، ثم توقظك على كابوس الواقع. ما قدّمته المسرحية لم يكن فقط قصة حبّ، بل دفاتر جيل بأكمله. جيل لم يُنهِ فصوله بعد. جيلٌ لا يزال يسأل: “منبقى؟ منفل؟ منرجع؟ منقدر نحبّ هون؟ منقدر نجيب اولاد هون؟ منقدر نكمّل؟”…

مسرحية “طربوش جدّي معلّق أثرت بي كثيرا، وأضحكتني اكثر ، وهذا ما يجعلها حقيقية. لأن اللبناني، حين يعجز عن البكاء، يسخر. يسخر من الحرب، من الحب، من الموت، من “خبر عاجل”، من كل ما كسره  ولم  يقتله.

Advertisement

ما يجعل هذه المسرحية استثنائية هو صدقها. لا دراما مفتعلة، ولا شعارات وطنية مستهلكة. بل حكاية حب بسيطة، لكنها تقول كل شيء: عن الحرب، عن الخوف، عن الطمأنينة الضائعة، عن وجع لا يلتئم… وعن الطربوش، الذي بقي معلّقًا، كرمز لكل ما علق فينا ولم نعرف كيف نفكّه أو ننساه. هي صرخة ناعمة، وقُبلة مؤجّلة، ودمعة ضاحكة. هي نحن، بكل تناقضاتنا. بكل ما حملناه وما زلنا نحمله.

خرجتُ من المسرح وفي داخلي شيء تغيّر. شعرتُ أني لست وحيدة. أن هذا التمزّق ليس عيبا، بل هو جزء من هويّتنا. وأنه، مهما ابتعدنا، سيبقى في القلب طربوشٌ معلّق… على اسم جدّ، وعلى اسم وطن، وعلى اسم كل ما لم ننسَه، ولن ننساه.طربوش جدّي معلّق ليست حكاية انتهت عند ستارة المسرح، بل هي حكايتنا، وحكاية وطن لا نعرف كيف نحبه من دون أن نختنق، ولا كيف نكرهه من دون أن نبكي.

هذه المسرحبة تُذكِّرنا اذا كان هناك ما لا يزال يجمعنا نحن اللبنانيين، فهو الذاكرة. ذاكرتنا، رغم تشرذمنا، هي الشيء الوحيد الذي لم يفرّقنا. قد نختلف في كل شيء، لكننا نتذكّر الشيء نفسه.نحمل الوجع نفسه، النغمة نفسها، والحنين ذاته. نضحك على النكتة السوداء نفسها، ونغني الأغاني ذاتها في الغربة، ونبكي على الصور عينها. المسرحية تذكّرنا أن ذاكرتنا، مهما كانت مثقلة بالحرب والخذلان، هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يُسرق منا.

  • “طربوش جدّي معلّق” مستمرة على مسرح مونو ، وهي من بطولة  الرائعين والتلقائيين مروى خليل وجنيد زين الدين، ومن كتابة مروى خليل ومخرج المسرحية رياض  شيرازي .
Exit mobile version