فن ومشاهير

قبل سبع سنوات، كيف ودّعت باريس شارل ازنافور؟

Published

on

جوزيفين حبشي

في الاول من اوكتوبر 2018, وصلت الى باريس لاجراء سلسلة مقابلات مع شخصيات عربية تقيم في العاصمة الفرنسية ، من ضمن برنامج ” وجوه المدينة”…

في الاول من اوكتوبر 2018 كانت كافة وجوه مدينة الحب والنور حزينة وشاحبة.  في مقاهي الرصيف، كانت الصحف المفلوشة على الطاولات الصغيرة، المفتوحة على وجهه مضيء يبتسم، اكثر من فناجين القهوة السوداء في ذلك الصباح البارد. طقوس الجلوس في مقاهي الرصيف تغيّرت في ذلك الصباح البارد . لم يطلب احد من رواد المقاهي قهوة الصباح، ولا حتى عصير برتقال وكرواسون دافئ. لم يراقب احد المدينة وهي تستيقظ ببطء. كانت عيونهم معلقة في صفحة جريدة ، بؤبؤ العين يرفض ان يتحرك، أن يصدق، ان ينتقل الى خبر آخر. في ذلك الصباح التشريني الحزين، رحل ازنافور، وترك باريس مصدومة، حزينة، كأرملة خسرت من كان  عاشقا لها لدرجة الوله .

Screenshot

لم تكن باريس مجرّد مدينة لأزنافور، بل امرأة تُعشَق ، وإلاهاً يُعبَد،  ومسرحا للحياة كما رآها وكتبها وغنّاها. من أزقّتها القديمة إلى أضوائها اللامعة، ومن الأرصفة إلى مقاهي الرصيف، شكّلت المدينة خلفيةً دائمة لعواطفه ونصوصه. في جلسات مقاهي الرصيف الباريسية، حيث يجلس الباريسيون يشاهدون الحياة تمرّ، كان صوت أزنافور هو الموسيقى الخلفية لذلك المشهد، يغني عن حبّ ضائع، أو زمنٍ مضى، أو امرأةٍ لم تأتِ.

Screenshot

حتى نهر السين، الذي يعانق المدينة ويتقاطع مع ذكرياتها، توقف عن الانسياب في ذلك الصباح. سالت دموعه على وجنة مراكب ال bateau mouche, وهي  تستمع الى صوته يردد:

«De la scène à la Seine… du néon au néant» (من خشبة المسرح إلى نهر السينمن وهج الأضواء إلى العدم). ولكن في ذلك الصباح التشريني، تخلّف ازنافور عن النزول من قمّة المسرح إلى صمت الشارع، إلى حضن المدينة التي أحبّها كما لم يحبّها غيره. واحتراما له، صمتت باريس في ذلك الصباح البارد. كانت خسارتها اكبر من ان تترجم بكلمات. لقد خسرت  صوتًا لم يكن مجرد نغمة، بل حياة كاملة.

Screenshot

رحل شارل أزنافور في الأول من أكتوبر 2018، لكن حضوره ظلّ يتردّد في كل زاوية من باريس ومن هذا العالم: في قلوب العشّاق، وفي مسارح العالم، وفي الأغاني التي علّمتنا كيف نحزن، وكيف نحب، وكيف نتذكّر.

أزنافور لم يكن نجما  عابرا في سماء الفن، بل ظاهرة فنية وإنسانية عبرت القارات واللغات والحقب، وحفرت اسمها في الذاكرة الجماعية للشعوب. من لاجئ أرمني، تحوّل  شانهور فاريناغ أزنافوريان الى صوت فرنسا والعالم، الى شارل ازنافور.

Advertisement

Screenshot

وُلد في باريس عام 1924، لأبوين أرمنيين لجآ إلى فرنسا هربا من الإبادة. وفي بيئة ثقافية مركّبة، نشأ الطفل الذي سيصبح لاحقا واحدا  من أعظم كتّاب ومغنيي الأغنية الفرنسية. كأن المنفى والحنين كانا جزءا أصيلاً من صوته منذ البداية. صوته غير التقليدي، الذي رُفض في بداياته، أصبح لاحقا أحد أشهر الأصوات في العالم، حتى لُقّب بـ”فرانك سيناترا الفرنسي”.

Screenshot

لم يكن أزنافور فنانا فرنسيا فحسب، بل مواطنا عالميا. كتب ولحّن وغنّى أكثر من 1300 أغنية، بلغات عدّة، أبرزها الفرنسية والإنجليزية، إضافة إلى الإسبانية، الإيطالية، والألمانية. قدّم حفلات في أكثر من 90 دولة، (من ضمنها لبنان الذي زاره وغنّى على مسارحه عدة مرات)، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 20 لغة. مثّل في أكثر من 60 فيلما، وشارك في القضايا الإنسانية، لا سيما تلك المرتبطة بأصوله الأرمنية.

غنّى عن الحبّ والخذلان والشيخوخة والوحدة، بصدق لا يتصنّع، وعمق لا يخدع . “Hier encore, j’avais vingt ans”هي واحدة من أشهر أغانيه، واجه من خلالها الزمن وتأمّل مرور العمر بشجاعة شاعر وصراحة إنسان. في أغنيته الشهيرة “She”، التي غزت قلوب العالم الانغلوفوني عام 1974، كتب:

“She may be the reason I survive / The why and wherefore I’m alive”

ولكن الاغنية التي غزت قلوب واحاسيس العالم كله، كانت وتبقى

“La Bohème” نشيدا  خالدا  عن حب الفن والحياة رغم الفقر والتعب.

 La bohème, la bohème, ca voulait dire on est heureux

Advertisement

La bohème, la bohème, on était jeunes, on était fous

La bohème, la brhème, ça ne veut plus rien dire du tout

Screenshot

غنّى أزنافور الحياة كما هي: قاسية، جميلة، مملوءة بالأمل والتناقض. لم يخشَ الكسر، بل جعله لحنا. لم يجمّل الألم، بل منحه صوتا. وفي زمن أصبحت فيه الأغنية مجرد منتج سريع الزوال، تظلّ أغاني أزنافور تنبض بالحياة. لأنها لم تكن تُكتب لتُباع، بل لتُقال، لتُشعر، لتُعاش، لتبقى.

“Emmenez-moi au bout de la terre”  وربما فعل. فقد أخذنا معه إلى أقاصي الذاكرة، إلى ما بعد الموت، حيث يعيش الفن الحقيقي.

Screenshot

في الذكرى السنوية السابعة لرحيله، لا نرثي شارل أزنافور، بل نحتفل به. نشكره لأنه أعطى الفن معنى، ولأنه غنّى كما لا يغني أحد، ولأنه جعلنا نؤمن أن الصوت حين يكون صادقا، لا يموت… بل يتحوّل إلى ذاكرة جماعية.

في كل زاوية من هذا العالم، هناك قلبٌ ما ، رقص أو بكى أو تنفّس الحياة على إيقاع صوته. غنّى أزنافور عن الحبّ، لا بصفته رفاهية، بل كملاذ أخير للبشر في عالمٍ قاسٍ. غنّى عن الوحدة، لا كضعف، بل كرفيق حقيقي في لحظات الحقيقة. غنّى عن الموت، لا كخاتمة، بل كبداية للحضور الخالد.

شكرا شارل… والى لقاء يتجدد كل يوم، في كل أغنية، في كل لحظة حنين، وفي كل قلب لا يزال يحبّ.

Advertisement

Screenshot

Exit mobile version