ثقافة
ايلول عودةٌ الحنين بسلّة مونة ومرطبان مكدوس وجرس مدرسة وشاشة سينما وصوت فيروز
جوزيفين حبشي
أيلول طرفه بالشتاء مبلول، بالحنين مجبول، بنسمة تعد بدافئ سيحضننا بالحب قريبا، معطرا بنكهة الشاي بالقرفة قرب نافذة تطل على الذكريات. ايلول ليس شهراً كغيره، أنه حلم. أيلول لا يأتي كغيره من الشهور. هو لا يقرع الأبواب، بل يلامس النوافذ بأنامل من نسيم، يرفع عن القلب صخب الصيف ويُخبرنا، همساً، أن كل شيء يستعد للتبدّل.
في أيلول، يهبّ أول نسيم خريفي، خفيفاً على الكتف والقلب، حنونا على الذاكرة والذكريات، كأنّه يربّت على كتف الصيف قائلاً: “شكراً لك، حان الآن وقت الراحة.”
ايلول هو ختام الضوء الطاغي وبداية الضوء الحنون، حيث تبدأ الشمس بالميلان قليلاً، وتخفُّ سطوتها، لتصبح أكثر دفئا أكثر رقة وحنانا، أشبه بابتسامة خجولة.
في القرى، تُدقُّ أبواب البيوت على وقع “المونة”. جرار المكدوس بالجوز وزيت الزيتون تصطف كجنود من نكهة.دبس العنب يُغلى على نار هادئة، رائحة الزعتر تعبق من السطوح، والتين يُنشر على ألواح الخشب كأنه يستحمُّ في شمس وداعيّة.
أما الكشك، ذاك اللبن المجفف بعرق البرغل والنساء والصبر، فيُمدّ على الشراشف، يُقلب برفق، فيتطاير ذلك الغبار الأبيض الذي يشبه نفناف ثلج ليلة عيد الميلاد في دير الأحمر، برائحة تثير الذكريات، ذكريات الطفولة… وجوه الأمهات تبرق بين التعب والحنان، يجمعن الخير بالصبر، ليُدفَنَ في مرطبانات من زجاج، حكاياتٌ تُحفظ لا للأكل فحسب، بل للدفء أيام الشتاء.
وفي بيروت، تصحو الأرصفة على خطى الأطفال العائدين إلى المدارس. حقائبهم أكبر منهم، وعيونهم تخلط بين الخوف والفرح. هو موسم الأقلام الجديدة والدفاتر البيضاء التي تنتظر أول حرف… وربما أول خطأ. أيلول يعلمهم أن البدايات لا تأتي إلا بعد وداع، وأن الرجوع إلى المقعد ليس نهاية العطلة، بل بداية الحلم.
وفي المقاهي، يعود الضجيج الأليف. القهوة لم تعد تُشرب على شرفات الصيف، بل تعود لتحتضن أصابع مرتجفة قليلًا. وتعود معها الحكايات الصغيرة، تلك التي تُقال على مهل، ويُكتب من بينها العمر.
وفي قاعات السينما، يعود السحر من جديد. مهرجانات العالم تبدأ في أيلول، من فينيسيا إلى تورونتو، وتحت أضواء الشاشة، يجتمع الحالمون من جديد. تُطفأ الأنوار، يُرفع الستار، وتُولد قصة. أيلول ليس نهاية، بل موسم جديد للفن، موسم تُروى فيه القصص لا عبر النزهات، بل من خلال عدسة وكلمة ومشهد. وتعود السينما لتهمس في الأذن: “نحن هنا… والخيال لا يُغلق أبوابه.”
أيلول هو شهر الرجوع إلى الذات. فيه يعود الهدوء بعد صخب الصيف. يبدأ الإنسان بالبحث في قلبه، عن معنى ما، عن وقت لنفسه، عن فنجان قهوة لا يُشرب على عجل. هو بداية الخريف، الفصل الذي يحبّه الشعراء ويخافه العاشقون. فيه تذبل الأوراق لا لأنها ماتت، بل لأنها اكتملت، وحان لها أن تهمس للأرض: “لقد فعلتُ ما بوسعي.”
أيلول لا يحزننا، بل يُدرّبنا على الحنين. يجعلنا نحب الأشياء أكثر، لأننا نراها تمضي. أيلول، مرحباً بك يا أيلول…أيها الشاهد الهادئ على مرور الوقت، أيها المُعلّم الأول لفنّ الوداع الجميل، وشهر البدايات التي تأتي بصوتٍ منخفض، ولكن بقلبٍ دافئ.
وفي النهاية، من يكتب أيلول أفضل من فيروز؟ من يختصر هذا الحنين، وهذا الضوء الأصفر، وهذا الارتباك الجميل بين الماضي والآتي؟ صوت فيروز هو النشيد الرسمي لشهر أيلول…صوتٌ يمرّ من بين أوراق الشجر الصفراء، يكتب أسماء من مرّوا في حياتنا، ويمحوها برقة، ثم يغفو على حافة نافذة.
“ورقو الأصفر شهر أيلول.. تحت الشبابيك ،ذكّرني وورقو دهب مشغول.. ذكّرني فيك”… كل ورقة تسقط، تروي حكاية. وكل نسمة تمرّ، تهمس باسم. و”إن رجع أيلول وإنت بعيد ، بغيمة حزينة قمرها وحيد، بيصير يبكّيني شتي أيلول، يفيّقني عليك يا حبيبي. ليالي شتي أيلول بتشبه عينيك”…