ثقافة
روز ماري”: صراع العقل والقلب في مواجهة الذاكرة والوجع
جوزيفين حبشي
لن اقدم تحليلا بنيويا أو تقنيا لنص مسرحية ” روز ماري” (الحبكة، الحوار، الإيقاع الدرامي، بناء الشخصيات، تطور الحدث…)، بل سأروي تجربة عاطفية اختبرتها عند المشاهدة.
في اولى تجاربه في الكتابة المسرحية ، رأيت ايلي مكرزل يفتح نافذة على العتمة الداخلية للإنسان، حيث يسكن الصراع الأزلي بين العقل والقلب، المنطق والإحساس، الخوف من الانكسار والخذلان والجراح والرغبة في الحب والاهتمام والحياة . من خلال روز وماري ، لا يقدم مكرزل شخصيتين منفصلتين، بل وجهين لذات واحدة، تبحث عن خلاصها من ماضٍ مثقل بالخسارات وجراح الطفولة والمآسي العائلية التي لا تندمل.
الفكرة التي تبيّن انها تجارب شخصية عاشها الكاتب، وجدانية وتلمس، و مكرزل يكتب نصه من موقع الذات المجروحة، فيجعل من المسرح مساحة للبوح وللتحرّر من ثقل الذاكرة. وقد تكفّل الاداء الرائع لمايا يمين وبياريت القطريب والاخراج الشبيه بعيادة طبيب نفسي لشادي الهبر، في تقوية النص وشدّه نحو الاعمق واعطائه بعدا آخر، اكثر قدرة على تحريك المشاعر.
على خشبة مسرح شغل بيت ( مونو) ، تتقاطع روز (العقل) مع ماري (القلب) في حوار داخلي، أشبه باعتراف طويل أمام مرآة الذات. الصراع بينهما ليس مجرد جدال فكري أو عاطفي، بل هو معركة للبقاء، بين الرغبة في الحب والانفتاح، والخوف من الانكسار المتكرر. منذ اللحظة الأولى، ندرك نحن المشاهدون إلى أين تتجه روز ماري، ولكن قوة الأداء والإخراج تنقله إلى مكان آخر تماما. اخراج شادي الهبر منح النص بعدا بصريا وشعوريا مضاعفا، عبر إدارة ذكية للضوء والظل، وإيقاع متوازن بين السكون والانفجار. الإضاءة هنا ليست عنصراً تقنياً بل لغة موازية تكشف المستور وتضيء على الجرح.
يشكّل الأداء الركيزة الأساسية في نجاح هذا العمل. البداية مع بياريت القطريب التي ايقظت في داخلنا نحن النساء، تلك الهشاشة المغلفة بتوق للحب مهما كان الثمن، اي اطنان من تنازلات وغض للطرف. بياريت هي ماري، الانوثة، الجمال، القلب، الاحساس، الشعور، التشبث بحب تصر على خداع نفسها بأنه يبقيها على قيد الحياة، رغم ادراكها أنه يُميتها في اللحظة، مئات المرات. تقدّم بياريت القطريب شخصية ماري بانسيابية عالية، فتجسّد برهافة ، هشاشة المرأة التي تبرّر حباً مؤذياً لأنها ترى فيه آخر خيوط الحياة. أداؤها البسيط والعميق في آن، يستدعي تعاطف المشاهد من دون مبالغة أو خطابية.
اما الختام المسك فمع مايا يمين، أو “وحشة الاحساس” التي ممنوع عليها ان تطل داخل القمقم بعد اليوم. مايا يمين يسري في دمها ابداع من فئة A+. أداؤها قائم على تقمّص داخلي صادق يذيب المسافة بين الممثلة والشخصية. هي روز، ولكن حياتها لم تكن وردية، بل مغطّسة بالسواد كلباسها . هي العقل الذي يحمي قلبها من انكسارات الطفولة مع اب مهمل وغائب خذلها، وأم عانت من الالم النفسي والاجتماعي والاقتصادي والمرض الجسدي ، لتربية ابنتها، فرحلت ولم يرحل معها الوجع. مايا يمين ” من دون دف” ترقص كطائر مذبوح من الالم، فكيف اذا كان الدف موجودا؟ كيف اذا كان القدر قد وضعها، خلال التمارين الاستباقية لعرض المسرحية، امام الامتحان الاصعب لانفجار الاحاسيس: وفاة والدتها. رحيل اضفى على تجربتها صدقاً مضاعفاً، ما جعل مشاهد الفقدان تتحوّل إلى فعل وجودي يتجاوز الأداء التمثيلي إلى نوع من الاعتراف المسرحي الحيّ.
هل تتخيلون؟ هل تتخيلون عندما تلتحم الموهبة والقدرة على تقمّص الشخصية الوهمية والمتخيّلة ، مع واقع الالم المُعاش من قبل الشخصية الحقيقية؟ لا داعي لأن تتخيلوا، يكفي أن تشاهدوا مايا يمين تنفجر على الخشبة، وتنعصر وجعا ودمعا وحرقة، لتدركوا معنى مقولة ” لا تكرهوا شرا، لعله خيرا”. اعتذر عن هذه المقولة، ولكن مأساة وفاة والدة مايا يمين، كانت نقطة التحوّل الكبير في شخصية روز، وقطرة الماء التي جعلت كوب احاسيسها يفيض ويفيض كأنهر الدموع التي سالت من عينيها .دموعها على الخشبة لم تكن تقنية، بل طقساً تطهيرياً يحرّر الألم الشخصي ضمن تجربة جماعية. مشاهد الأم تحوّلت لحظة مسرحية مزلزلة، فمايا لم تقدّم وجعها وحسب ، بل نقلت ايضا وجع ايلي مكرزل الذي لا يزال يعايش مرض والدته بالسرطان. الدموع التي ذرفتها على الخشبة ونظراتها الى شقيقها الممثل غابريال يمين الجالس في الصف الاول، يختبر مثلها كل ذلك الوجع، ونظرات مكرزل الى امه، كانت بوحاً حقيقيا لاسرة تواجه موتها الداخلي لتولد من جديد.
“روز ماري” ليست فقط مسرحية عن الحب أو الخسارة، بل رحلة علاج نفسي وجماعي لمن كتبها ومن جسّدها. هي تجربة مسرحية تكشف هشاشة الإنسان وتواطؤه مع ألمه. وهنا تكمن قوة المسرح في أن يكون مرآةً ودواءً في آنٍ واحد، ومكاناً للشفاء، لا للعرض فقط.
Screenshot