فن ومشاهير

“220 يوم”… ليته 220 مليار يوم

Published

on

جوزيفين حبشي 

في زمن الزيف والابهار الفارغ من المضمون، اسمحوا لي ان اوجه “شكرا كبيرة من القلب” الى كل من المؤلف محمود زهران  وكاتبتي السيناريو والحوار  نادين نادر و سمر بهجت، والمخرج كريم العدل، وكافة الممثلين من دون استثناء، وخصوصا الى المنتج اللبناني الذي به نفتخر، صادق الصباح وشركته “سيدرز إرت بروداكشن”، على تقديمهم معا واحدا من أجمل واعمق  وأقوى المسلسلات  التي شاهدتها حتى اليوم، واكثرها قدرة على ترك بصمة فنية  وانسانية ووجدانية في روحي،”220 يوم”.

Screenshot

في زمن يُقاس فيه النجاح بعدد المشاهدات  والابهارات  والبهلوانيات التقنية  والخزعبلات الدرامية والفنية ، يأتي مسلسل “220 يوم” ليقف شامخا بهدوء ، غير ساع  للادهاش، بل إلى اللمس برقة وعمق  وانسانية. لا يلهث خلف الأضواء، بل يهمس في العتمة. إنه عملٌ لا يُشاهد فحسب، بل يُعاش، كما تُعاش الأيام التي نعرف أنها معدودة، لكنها مشبعة بالحياة.

في زمن تمتلئ فيه الدراما العربية بالصراخ والمبالغة و”الترندات”، يظهر مسلسل “220 يوم” ليذكّرنا أن الفن لا يحتاج إلى صوتٍ عالٍ كي يُسمع، بل إلى صدق. وهذا تحديدا ما جعله يتسلل إلى القلب بهدوء، ويحفر في داخله أثرًا طويلًا، رغم قصر مدته.  دراما قصيرة (15 حلقة) بقدر الأيام المعدودة في حياة البطل، لكنها ممتلئة كعمرٍ طويل، مشبع بالأمل ، والكتابة، والحب.

Screenshot

يبدأ المسلسل بخبر صادم : البطل أحمد – الكاتب، الزوج، الحالم – لم يتبق له في الدنيا سوى 220 يوما. والبطلة مريم – الزوجة والمصوّرة الفوتوغرافية – حامل . وهنا يكمن سر المسلسل، المواجهة بين حياة تزول وحياة تبدأ. والرائع فعلا  أن الموت هنا لن يكون البطل الحقيقي. إنما الحياة… الحياة رغم المرض، رغم الخوف، رغم اقتراب النهاية. كل لحظة تُحتسب لا بساعة اليد، بل بنبض القلب.

“220 يوم” لا يحكي فقط عن المرض أو النهاية، بل عن الكتابة كوسيلة للانتصار على الفناء. البطل كاتب، يعرف أنه لن يرى ابنته تكبر، لكنه يقرر أن تراه هي، من خلال حروفه. الرواية التي يكتبها لأجل ابنته “بهية” تصبح رسالته الأخيرة، و”وصيته العاطفية”. وهنا، يحقق المسلسل واحدا  من اجمل معاني “الأبوة”: الأب ليس من يتواجد  فقط ، بل من يترك أثرا، وكلمة، وذاكرة ايضا.

Screenshot

كريم فهمي ، الله على كريم فهمي. ها هو يخلع عنه جلد “الفتى الوسيم” ويلبس شخصية رجل مكسور، يحاول أن يرمم ما تبقى من أيامه بالكلمات. بنظرته المرهقة وابتسامته الخجولة، يقدم أداءً ناضجا، بلا افتعال ولا دموع رخيصة. شخصية احمد  هي من أفضل أدواره. مزيج من هشاشة داخلية وشجاعة هادئة. لم يحاول أن يكون بطلاً مريضا يتوسل الشفقة، بل إنسانا يُقاوم بكل ما تبقى له: بالكتابة، بالحب، بالسكوت.

Screenshot

صبا مبارك، تمشي على الحافة بين الألم والصبر، وتُجسد بقوة مخيفة ، هدوء العاصفة حين تكون في رحم أنثى تنتظر طفلتها وغياب زوجها في آن. حضورها راسخ كعادتها. لكنها هنا تتجاوز الأداء التمثيلي لتكون امرأة “تعرف” ما يعني أن تلد في ظل موت، وأن تتماسك كي لا تَكسر.

حتى “بهية” ، ليست مجرد شخصية لم تولد بعد، واسمها ليس اختيارا عابرا، بل إعلان داخلي من المسلسل أن الجمال يمكن أن يُولد من الرماد، وأن الحياة تستمر حتى لو على أنقاض وجع.  بهية هي الوطن، هي الأمل، هي الورقة الأخيرة في رواية تُكتب تحت سطوة الزمن.

Screenshot

الشخصيات المساندة، من حنان سليمان التي تذوب امومة وطيبة ، إلى محسن محيي الدين، وعايدة رياض  وعلي الطيب ولينا صوفيا بن حمان، رسمت بدقة تفاصيل البيئة العاطفية المحيطة بالبطلين، دون تزاحم على الضوء. وهنا اسمح لنفسي بالاشادة بالممثلة اللبنانية المذهلة تقلا شمعون التي قدمت دور لينا، والدة مريم، التي عادت بعد غياب طويل بسبب الإدمان. مساحة دورها قصيرة صحيح ، ولكنها تحدّت واختصرت سنوات من الألم في لحظة واحدة، في ندم مكتوم وصوت منخفض ونظرات منكسرة. تقلا شمعون في مشاهدها القليلة، تتحوّل في كل لقطة إلى أيقونة درامية، تكشف عمق الشخصية دون أن تقول كل شيء،  وتُراهن على البصمة لا على التكرار والتطويل. بدورها الممثلة اللبنانية ستيفاني عطالله ، (ورغم ظهورها في مشاهد قليلة جدا بدور لينا في فترة الشباب) اطلّت كنسمة اوكسيجين بحيويتها وطاقتها وابتسامتها المشعة وعينيّها اللتين رغم وساعتهما، لا تتسعان للكم الهائل من المشاعر التي تلمع داخلهما. دورها قصير صحيح، ولكن حضورها آسر، وبصمتها كبيرة.

Screenshot

Screenshot

Screenshot

الاخراج؟ يا سلام على الاخراج الذي يترك المساحة للسكوت، للرقة، للهدوء .  يا سلام  على المخرج كريم العدل الذي  لا يخاف من الصمت، بل يثق أن في السكون ما يكفي من الألم، وما يكفي من جمال أيضًا. كريم العدل باخراجه السلس والحميمي، يواكب النغمة الداخلية للقصة، بلغة بصرية شفافة، بلا استعراض. الكاميرا تتنفس مع الشخصيات، الموسيقى لا تسبق الشعور بل تلحقه. كل مشهد يبدو وكأنه مقتطع من حكاية حقيقية، لا من نص مكتوب. هناك سلاسة إخراجية لا تتعمّد اظهار قدراتها، فلا شيء يعلو فوق صوت المعاناة الهادئة، والرجاء المستتر.

المؤلف محمود زهران وكاتبتا السيناريو والحوار نادين نادر وسمر بهجت؟ الله عليهم، الله على صدقهم وحقيقيتهم وقدرتهم على تحويل الدمعة ابتسامة، والموت حباة، واليأس أملا. لقد قدموا من خلال مسلسل 220 يوم تجربة درامية استثنائية في خلق عمل ينبض بالصدق الإنساني، والعمق النفسي، والسحر في التزاوج بين الحقيقي والمتخيّل ، والتشويق الممتد على مدار الحلقات. محمود زهران قدّم قصة متماسكة رغم تشعباتها وتنقلاتها بين الماضي والحاضر، الواقعي والمتخيّل. قصة ذات رؤية واضحة ، هدفها الصراع الإنساني الداخلي، و التحولات التي يمر بها الإنسان تحت وطأة المحطات المفصلية التي تغيّر مسار  حياته.

Advertisement

Screenshot

أما نادين نادر وسمر بهجت، فقد تألقتا في ترجمة هذه الرؤية من خلال حوارات صادقة، عميقة، مؤثرة ، واقعية ، فيها شاعرية ورومنسية و وفلسفة مغلفة ببساطة جميلة. حوارات عكست طبائع الشخصيات وتناقضاتها، اذ بدت طبيعية جدا ، سلسة جدا جدا ، ولكنها محمّلة بالمعاني، وهذا ما ساهم في   منح الشخصيات بُعداً إنسانياً قوياً، وساعد في ترسيخ الارتباط العاطفي للمشاهدين مع العمل .

Screenshot

الانتاج؟ يا سلاااام على الانتاج . لقد نجح المنتج صادق الصباح وشركته سيدرز آرت برودكشن (صباح إخوان) في تقديم عمل درامي استثنائي، يحقق التوازن بين الجودة الفنية والإيقاع المكثّف الملائم لطبيعة العرض على المنصات الرقمية . الشكر الكبير لصادق الصبّاح الذي اهتم   بعمل يتناول قضايا إنسانية عميقة، من الصراع مع المرض إلى المسؤوليات الأسرية الدقيقة، في إطار درامي مؤثر يُلامس وجدان الجمهور العربي   . والشكر الاكبر أن لبنان موجود دائما في وجدانه، إن من خلال تصوير بعض المشاهد في لبنان ، أو من خلال منح ادوار  قوية رغم صغر مساحتها ، لنجوم لبنانيين يرفعون الرأس بقيمتهم الفنية . ايضا شكرا لشركة الصبّاح على  ادخالها  تحية إنسانية مؤثرة في الحلقة العاشرة تكريما لضحايا انفجار بيروت، ما يُظهر حسًّا عميقًا بالواقع والتضامن المجتمعي.

Screenshot

وفي الختام، نصل الى الخاتمة. ويا الله على هذه الخاتمة، ويا سلام على هذه الخاتمة، التي كنت انتظرها وقلبي على يدي، وعشرات من المحارم  الورقية الى جانبي، استعدادا لشتاء من الدموع لادراكي  انها  لا بد ان تكون حزينة ، وحزينة جدا.

يا الله على هذه الخاتمة التي جعلتني ابتسم وادمع فرحا. ما اجملها هذا الخاتمة التي لم تمنحنا نهاية مغلقة، بل فتحت بابا للخيال، للأمل، للحياة، للاستمرار. أحمد يظهر شيخا، محاطا بمريم وبهية واولادها ، ويقول ” كل واحد منا يكتب قصته كما يشاء”.

هل هذا حقيقة أم مجرد خيال؟ ربما مات، ربما عاش، لكنه بالتأكيد ترك ما يُشبه الخلود. لقد اختار  أن يترك  روايته  لطفلته بهيّة التي ولدت قبل دخوله غرفة العمليات، بدلًا من ترك الألم لمن بعده، وهذا ما منحنا ابتسامة وفرحا و درسا مؤثرا  في الفقدان النبيل، وفي كيف يمكن للإنسان أن يُهزم، دون أن ينكسر. هذا المسلسل  ليس عن المرض، بل عن الحياة. ليس عن النهاية، بل عن ما يمكننا أن نفعله قبلها. هذا المسلسل علّمنا ان الكتابة هي حياة بديلة، الحب حبل نجاة، والأبوة وسيلة للخلود. برقة، بانسانية، ربّت على كتفنا، وقال لنا:”ربما لا نستطيع أن نطيل أعمارنا، لكن يمكننا أن نمنحها المعنى”.

“220 يوم” من اجمل واعمق المسلسلات التي شاهدتها ، فشاهدوه، لا لتبكوا، بل لتتذكروا  أن  الحب هو دواء الحياة ، ووحده يمكنه أن يهزم الخوف والمرض والموت .

Screenshot

Exit mobile version