ثقافة
نوال الحوار: بهاء طاهر يمضي لكنه لا يموت.. مهزوماً
كتبت نوال الحوار:
أول ما يخطر على بال من يقرأ لبهاء طاهر (87 عاماً)، هو ذلك الأسلوب الممتع والباذخ في لغته العميقة ولعل الترجمة والفلسفة وقراءة التاريخ بشكله الحقيقي، هي مجموعة معطيات لعبت دوراً بارزاً في بناء الشخصيات في أدب هذا الرجل.
الموت صادم مهما بلغنا من العمر. يقول زهير بن أبي سلمى: سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ وبرغم ثمانينه (1935 ـ 2022) لم يسأم بهاء طاهر وبقي معطاء إلى آخر نقطة في حبر قلمه الذي ما جفّ معينه يوماً.
يقول في روايته “واحة الغروب”: “لا أفهم معنى للموت.. لكن ما دام محتماً فلنفعل شيئاً يُبرّر حياتنا. فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها”.
لا أظن أن هذه العبارة التي وردت في سياق النص الروائي على لسان البطل، جاءت عفوّ الخاطر، فكثيراً ما تكون رؤية البطل هي جزء من تفكير الكاتب أو هي روح الكاتب نفسه. هكذا كان يرى بهاء الحياة ولذلك أعطى بصمات لحياتنا، فقد كتب الرواية والقصّة القصيرة والنقد المسرحي بالإضافة إلى الترجمة والإخراج الإذاعي والمسرحي.
منذ بدايته في الكتابة، طرح الأسئلة العميقة وحمّل كتاباته رسائل عدة في الحياة الإنسانية وكلنا يتذكر العبارة الشهيرة التي قالها عنه زميله الروائي المصري يوسف إدريس.. وفيها الآتي: “الكاتب الذي لا يستعير أصابع غيره”، وذلك عقب نشره قصته الأولى بمجلة “الكاتب”، وكان عنوانها “المظاهرة”، فالإنسان لا يعثر على الخيط الأساسي لقصته هكذا وبسهولة..
ولذلك إحتاج 6 سنوات أخرى لتكتمل اول مجموعة قصصية له نشرت بعنوان “الخطوبة” (1972)، ومثّلت هذه المجموعة القصصية فتحاً أدبياً جديداً مخالفاً للسائد في مفهوم اللغة القصصية. كانت هذه المجموعة عالماً خالياً من الزوائد والاضافات وشديدة الالتصاق بالواقعية.
ولقد عاش بهاء يحلم أن تعود للثقافة مكانتها وان يستأنف المثقفون الدور الذي قام به الرواد. يقول بهاء طاهر، إن المثقف “كان نجماً عندما كنت تلميذاً. رأيت طه حسين يمشي في الجامعة انا ومن معي رجفنا عندما رأيناه.
كان نجماً ساطعاً، الآن لم تعد ظاهرة النجومية للمثقفين ربما لو مرّ نجم كرة لمشى وراءه شارع بأكمله”. في روايته “شرق النخيل” التي كتبت في الفترة نفسها، كانت حالة تنبؤية لما حدث في الواقع العربي عبر الصراع على الأرض بين المالكين الحقيقين ومن أراد أن يغتصب الأرض التي تقع شرق النخيل.
من هنا يمكن أن يُقال عن كتابات بهاء انها كانت واقعية صرفة فيها من ملامح حياة مؤلفها بعد أن سافر خارج مصر تحديداً. إلى مدينة جنيف حيث عمل مترجماً في الأمم المتحدة. تحكي “شرق النخيل” قصة الإنسان الذي يهاجر للعمل في الغرب.
إحساس الغربة والرفض والعنصرية تجاه الأجانب ومحاولات الاندماج في المجتمع من خلال العلاقة مع الفتاة التي تسمى “آن ماري”، يقول الكاتب انها أمور تلعب دوراً مهماً في كتابته، فمحطة القطار في جنيف التي كان يقف عندها يومياً لينتقل إلى عمله هي التي خلقت عنده فكرة المجموعة.
يقول أنه تخيل الراوي وهو يقف مثله كل يوم في المحطة إلا أن باقي العمل كله كان متخيلاً وهكذا نرى ونحن نستكشف أعمال الراحل انها كلها منبعثة من واقع عاشه في الغربة وكانت معركته الأساسية مع اللغة التي كان دائماً يحاول السيطرة عليها عبر إعادة تكوينها وتطويعها.
يتحدث بهاء عن اللغة في روايته “قالت لي ضحى” ويقول “أعجب من الكتاب الذين يقولون انه عندما أنهي الصفحة من الرواية لا أعود إليها مطلقاً”. هو عكس ذلك.
المسودات التي كتب عليها هذه الرواية القصيرة “توازي كمية مسودات رواية الحرب والسلام”. نعم هو يكتب الجملة ويعيدها عشرات المرات إلى أن تصل إلى صورتها النهائية.
كان للحب دوره الهام في حياة بهاء ولعله أهم المداخل إلى حياته فحين كتب “خالتي صفية والدير” كان حربي وهو الشخص الذي أحبته صفية بمثابة الباب الذي اختارت أن تنجو من خلاله من حياة كانت تقسو عليها.
هكذا امتدت سيرة بهاء الإبداعية. بالكثير من الصمت والهدوء وعدم الدخول في معارك جانبية ولو قمنا بعملية حسابية نوزع فيها أعماله على سنوات عمره سنجده من الكتاب الذين آثروا قلة الإنتاج على الوفرة، فقد كان داعية كتابة ناضجة متأنية.
نعم أعمال قليلة مؤثرة تبقى في الذاكرة افضل من إسهال لا معنى له. وإليكم مجاميع أعماله: الخطوبة/ بالأمس حلمت بك/ شرق النخيل/ خالتي صفية والدير/ واحة الغروب/ قالت ضحى/ الحب في المنفى.
فاز بهاء طاهر بجوائز عدة أبرزها جائزة بوكر للرواية العربية، وتم تكريمه بقصر ثقافة بهاء في الأقصر، وهي المدينة التي جاء منها وتبرع بقطعة ارض ورثها عن أهله ليبنى عليها القصر وهو تحفة معمارية يحتوي على كل ما يخدم قضايا الفكر والثقافة ليستفيد منها أبناء مدينته. نعم هو هكذا، كما قال عنه عدد من كتاب مصر مثل علاء الديب:
“الصدق هو النبرة الأولى التي تصافحك في سطوره”.
بخلاف أعماله الإبداعية المميزة ترك إرثا غير قليل من الترجمات والمسرحيات وكذلك المسلسلات الإذاعية التي أخرجها بالإضافة إلى إهتمامه بقضايا الحرية والنهضة. وأخيرا أحيلكم إلى السؤال الذي طرحه الكاتب على لسان بطله في روايته الأخيرة “واحة الغروب” التي بقي يفكر بكتابتها لأكثر من أربع سنوات وفازت بعد صدورها بأول جائزة من جوائز الرواية العالمية بنسختها العربية (البوكر) قائلا على لسان البطل: “سنموت بالطبع في النهاية. سنموت مثل كل الناس ولكن يجب أن لا نموت مهزومين”.
نعم مات بهاء الطاهر، وكما يقول الأمير الشاعر خالد الفيصل: يموت الشجر واقفً وظل الشجر ما مات رياح الدهر تصرخ وهي تجرح جنوبها.