فن ومشاهير
رحيل داود عبد السيد عن ” ارض الاحلام”
جوزيفين حبشي
برحيل المخرج المصري داود عبد السيد ، تفقد السينما المصرية واحدا من أهم صُنّاعها الذين تعاملوا مع الفيلم بوصفه فكرة وسؤالا، لا مجرد حكاية للترفيه. أفلامه كانت مختلفة، عميقة، ومليئة بالقلق الإنساني، تبحث دائما في معنى الحلم، والحرية، والاختيار، وتضع شخصياتها في مناطق رمادية تشبه حياتنا أكثر مما تشبه السينما السائدة.

Screenshot
ورغم أهمية أعمال كثيرة في مسيرة داود عبد السيد ، مثل “البحث عن سيد مرزوق ” و” الصعاليك” و”الكيت كات”، يظل فيلم “أرض الأحلام”( 1993) من كتابة هاني فوزي وبطولة فاتن حمامة ويحيى الفخراني وامينة رزق وهشام سليم ، هو الأقرب لي شخصيا. ربما لأنه يمزج بين الواقع والفانتازيا والسحر بطريقة ناعمة لا تفرض نفسها، بل تتسلل إلى الإحساس ببطء.
في الفيلم، نرجس ( فاتن حمامة) ليست مهاجرة حالمة، بل امرأة مجبَرة على السفر إلى أمريكا لتسهيل هجرة أولادها. وقبل السفر بساعات، في ليلة رأس السنة، تفقد جواز سفرها، وتجد نفسها مضطرة للبحث عنه في الأماكن التي ذهبت إليها، وبين الأشخاص الذين التقت بهم يومها. هذه الليلة ستتحول إلى رحلة داخل المدينة وداخل النفس في آن واحد. وخلال البحث، ستلتقي بساحر غريب الأطوار يجوب ملاهي المدينة، يؤديه يحيى الفخراني. شخصية تبدو وكأنها خرجت من حلم أو خيال، وتدفع الفيلم إلى مساحة سحرية لا تلغي الواقع، بل تكشفه. ومع كل لقاء، وكل موقف، تتغير نظرة نرجس للسفر، وللحلم نفسه. “ارض الاحلام” قدّم فاتن حمامة في واحد من أجمل أدوارها الناضجة ، وباداء شديد الرهافة والصدق، ومثلها أمينة رزق في مشاركة دافئة وطريفة ، ويحيى الفخراني في حضور طاغ و استثنائي . في “ارض الاحلام” ، داود عبد السيد لم يستخدم الفانتازيا كزينة، بل كأداة كشف. كل لقاء، وكل موقف، وكل حدث عابر يغير شيئا صغيرا داخل نرجس، ويجعل سؤال السفر أقل بساطة مما كان يبدو. هل الهجرة خلاص؟ أم هروب؟ هل الحلم يستحق أن نغادر حياتنا من أجله؟ أجمل ما في “أرض الأحلام” انه فيلم عن الحلم حين يصبح ضرورة، وعن الفانتازيا كملاذ إنساني، وعن لحظة قد تغيّر فيها ليلة واحدة مسار حياة كاملة. وربما لهذا السبب تحديدا، يظل هذا الفيلم الاقرب الى قلبي وواحدا من أجمل ما قدّمته السينما المصرية، لأنه يشبه حياتنا: واقعية إلى حد القسوة، وحالمة إلى حد الضرورة .

Screenshot
