فن ومشاهير
رندة كعدي: سيدة الدراما وميريل ستريب لبنان

جوزيفين حبشي
في مشهد درامي يعج بالوجوه والقصص، تظل رندة كعدي وجها فريدا لا يُشبه أحدا. إنها الممثلة التي لا تمثّل بقدر ما تتقمص، تتنفس، وتعيش الشخصية. ولعلّ هذا ما جعلها تُلقّب بـ”سيدة الدراما”، ليس فقط لاحترافيتها العالية، وقدرتها على الغوص في أعماق الإنسان، وخاصة المرأة اللبنانية، بكل تناقضاتها وتعقيداتها، بل أيضا لصدق تعبيرها وتنوّع ادائها لشخصية حصرت طويلا في داخلها، شخصية الأم. ايضا هي تُلَقّب ب”ميريل ستريب لبنان”، لأنها ممثلة تمتلك القدرة على التلوّن بين الحزن والفرح، الجنون والرزانة، الانكسار والقوة. إنها ليست مجرد ممثلة تجيد أداء الأدوار، إنها روح تسكن الشخصيات فتمنحها نبضا إنسانيا يكاد يكون حقبقيا حد الألم.

Screenshot
انطلاقتها الفعلية كانت مع الكاتب والمنتج الراحل مروان نجّار، في مسلسل “من أحلى بيوت راس بيروت”، ومنذ تلك اللحظة، بدأت تبني مسيرتها على أسس متينة: الهوية، العمق، والانتماء الإنساني. لم تكن تبحث عن البطولة المطلقة، بل عن أدوار تعيش وتُحس وتُحفر في الذاكرة.
ومع مرور السنوات، تنوّعت أدوار رندة كعدي، إلا أن المشترك بينها كان الإحساس العالي والتمثيل الداخلي. ومع مرور السنوات وسّعت رندة كعدي حضورها إلى جمهور عربي أوسع، من خلال مسلسلات معربة عن التركي مثل “الثمن” و”القدر”، فاثبتت أنها قادرة على التحوّل ثقافيا من دون أن تتنازل عن هويتها الفنية، وان تقدّم شخصيات أمومية ولكن بعين عربية عامة، وعمق إنساني شمولي. كل هذا من دون أن تفقد يوما خصوصيتها اللبنانية.

Screenshot
هذه الخصوصية اللبنانية هي رندة بحد ذاتها. رندة كعدي ، وقبل ان تكون ممثلة، هي ذاكرة حية للمجتمع اللبناني، بصراعاته، أحزانه، وأحلامه الصغيرة. من خلال أدوارها، استطاعت أن تحفر مكانا دائما في قلوب المشاهدين، ليس لأنها مثّلتهم فقط، بل لأنها شعرت بهم قبل أن تقف أمام الكاميرا. شخصيات تعيش في صلب المجتمع اللبناني، قدمتها وتحركت بتلقائية مثلها ، وبَنَت من تفاصيلها البسيطة والصادقة كيانا كاملا لها. والأهم في أدائها أنها لم تقع في فخ التكرار ، رغم تكرار الثيمات. ففي كل “أم” أدّتها، كان هناك وجع مختلف، لغة جسد مغايرة، واشتعال داخلي له في كل مرة طعمه الخاص.
صحيح ، ارتبط اسم رندة كعدي بدور “الأم” في معظم مسيرتها، ولكنها كانت أيقونة الأمومة المتجددة. لم تكتفِ بتقديم الأم النمطية، بل سعت لتفكيك هذه الصورة وإعادة تشكيلها بدرجات إنسانية معقدة. الأم في ملامح رندة لم تكن فقط راعية ومُحبة، بل أيضا امرأة متألمة، غاضبة، هشّة، وحيدة، وأحيانا متسلطة أو متمردة على قدرها. هذه القراءة المعمقة للأمومة جعلت الجمهور يراها كأمهم جميعا ، فهي تذكرهم بوالداتهم في لحظات الحنان أو الخوف أو الصراخ.
رندة كعدي كانت حبة الكرز على قالب أبرز المسلسلات اللبنانية، من “قلبي دق” و”وينكنت” إلى “راحوا” و”لاخر نفس” و”عرابة بيروت” و”للموت” و”2020”. وفي كل عمل، كانت تقدم وجها جديدا للأم أو المرأة، من دون أن تُكرر نفسها. ادوارها كلها لافتة، ولكنني شخصيا انحني اجلالا وانبهارا أمام تجسيدها لشخصية مارتا في مسلسل “ومشيت” . مارتا، أم الشهيد، شكّلت ذروة في مسيرتها. فقد قدمت رندة مزيجا نادرا من الجنون والطرافة والوجع، في تجسيدها لأم فقدت فلذة كبدها، لكنها رفضت أن تعترف بالفقد. تواسي نفسها بصورة ابنها، تتحدث إليه كأنه ما زال على قيد الحياة، وتتمايل على حافة الجنون، حيث تختلط الهلوسة بالحقيقة، والعزاء بالكوميديا السوداء.
هذا الدور تطلّب قدرة تمثيلية هائلة، ليس فقط في التكنيك، بل في الاستبطان النفسي العميق. وقد برهنت رندة كعدي أنها تعيش الشخصية حد الذوبان، مؤدية أداءً حركيا وصوتيا وانفعاليا متكاملاً. مارتا لم تكن مجرد شخصية درامية، بل صرخة أم فقدت ابنها ثم عقلها، في صمت مميت لا يُسمع إلا عبر الشاشة.

Screenshot
في مسلسل “للموت”، قدّمت رندة كعدي دور حنان ، المرأة الهادئة، الطيبة، التي تخبّئ حبا قديما لعبدالله، وتعيش على هامش الحياة. في البداية، ظهرت حنان كأيقونة الصمت والحنين، امرأة مقموعة بالحياء والخجل، حتى لحظة التحوّل الدرامي الساحر حين تتزوج عبدالله.
الانفجار الإبداعي الحقيقي تجلّى في مشهدٌ واحد فقط… تناولت فيه رندة كعدي حبة هلوسة بالخطأ، فتعرّت حنان من وقارها، وخلعت خجل العمر، وراحت ترقص بجنونٍ يُبكي أكثر مما يُضحك. في دقائق معدودة، خرجت من جلدها، وعرّت وجعاً يختبئ خلف الصمت والخجل والتماسك. لم تكن تؤدي مشهدا… كانت تنفجر من الداخل. بذلك المشهد وحده، مزجت رندة كعدي الجنون بالطفولة، والأنوثة بالكبت المحرّر، بشكل قلما يُرى في الدراما اللبنانية. بذلك المشهد وحده اختصرت ما لا تختصره عشرات الحلقات. أثبتت أن الفنان الحقيقي لا يحتاج لمساحات، بل للحظة صدقٍ واحدة، تفجّر الشاشة وتبقى في الذاكرة.
في مسلسل “2020”، أدت دور الحجة أم صافي، الأم الطيبة،التي تعيش في قلب بيئة شعبية خانقة، حيث تختلط الطيبة بالخوف، والحنان بالحذر، والأمومة بصمت الوجع. هي أم لا تزال تمسك بطرف الضوء في عالم يزداد عتمة. لم تقع في فخ النمطية، بل حملت الشخصية بلحمها ودمها، وجعلتنا نراها لا كمجرد أم، بل كرمزٍ لصبر وطيبة النساء، اللواتي يعشن على الهامش، لكنهن يُبقين الحياة دافئة. رندة كعدي رسمت شخصية أم صافي بتفاصيل دقيقة: من الملامح، إلى اللغة، إلى الحضور ، فجاء أداؤها مشبعا بالإحساس، دون ادّعاء، وبدت الحجّة أم صافي كأنها حقيقية أكثر من الواقع نفسه.

Screenshot
بعيدا عن الأضواء، تبدو رندة كعدي فنانة واعية بمشروعها الفني. لا تركض وراء البطولة المطلقة، ولا تستعرض قدراتها، بل تختار أدوارها بدقة، معتبرة أن الفن رسالة، وأن الأداء التمثيلي الحقيقي يتطلب احترام النص والمُشاهد على حد سواء. دور الأم غالٍ على قلبها،وهي لا تمثّله… بل تتلبّسه. تسكنه كما تسكن الروحُ الجسد، بعذوبةٍ وصدقٍ وحميميةٍ لا تُصطنع. حين تؤدي شخصية الأم، لا نرى أداءً، بل نُحسّ بأمٍّ حقيقية تنبض بالحياة، بحنانها، بوجعها وبصلابتها.
لكنّ رندة كعدي، وهي في هذا العمر الناضج، لا يجوز حصرها في دور الأم فقط. هي تملك أدوات التعبير عن المرأة بكل تجلياتها، واختزالها في صورة الأم، مهما بلغت من العمق، يحدّ من قدرتها . المرأة، في أي عمر، كائن يتسع لكل التناقضات: يمكن أن تكون عاشقةً تشتعل، أو عاقراً تتألم، أو مقاومةً تنهض، أو مجنونةً تهرب من ضيق الواقع، أو سيدة اعمال فولاذية، أو حكيمةً تراقب العالم بصمت. ورندة، ببراعتها، قادرة على أن تمنح وجوه النساء هذه كلها صوتا وجسدا وروحا، من دون أن تخون أيّاً منها.

Screenshot