فن ومشاهير
سمارة نهرا: أداء بالقلب، موهبة بالدم

- جوزيفين حبشي
قلة من الممثلين في عالمنا يتقنون هذا التنوّع : أن يُضحكوك من القلب في مشهد، وأن يجرّوك إلى الدمعة في مشهد آخر ، من دون أن يبدوا غرباء في أيّ من الحالتين. سمارة نهرا فعلت ذلك ،بسهولة الموهوب، وعمق الناضج. صحيح، قد لا تنطبق عليها تلك التصنيفات التقليدية التي تصنع ما يُعرف بـ”الصف الأوّل”، لكنها من دون ادنى شك، من الأسماء التي يصعب تجاوزها أو القفز فوق بصمتها. ليس لأنها الأكثر صخبا ، بل لأنها من القلائل الذين فهموا أن الفنّ حالة صادقة، تُعاش لا تُؤدى، وتُلامس لا تُستعرض.

Screenshot
من الضحكة الى الدمعة، من الكوميديا التي هي ملِكتها، الى الدراما التي اثبتت انها سيدتها ، من الشاشة إلى المسرح، ومن الدبلجة إلى الأدوار الكوميدية والدرامية الثقيلة، رسمت سمارة نهرا مسيرتها بنَفَس طويل، واشتغلت على الشخصية لا على المجد، فاستحقت أن تُصنَّف ضمن الممثلين القادرين على ترك أثر طويل الأمد في الذاكرة البصرية والوجدانية للجمهور.

Screenshot
في الكوميديا، كانت هي الضحكة بعفوية وذكاء، وجسّدت شخصيات من سابع المستحيلات أن تُنسى. يكفي أن نعود إلى عام 2003، عندما تقمّصت شخصية “ميمي” في مسلسل “بنات عمّاتي وبنتي وأنا” (تأليف منى طايع، إخراج ليليان البستاني). كانت تلك الشخصية مثالا على الذكاء الكوميدي، لا مجرّد أداء خفيف، وحفرت اسم سمارة نهرا في الذاكرة، وظلّت علامة فارقة في أدائها الكوميدي.”ميمي” امرأة اقتصادية جداً… لا تنفق إلا ما يلزم، لكنها كانت تنثر على الشاشة ثراءً كوميدياً لا يُقدَّر بثمن. “ميمي” لم تكن بخيلة فحسب، بل مدافعة شرسة عن فلسفة البخل الطريف . امرأة ترى العالم من خلال الآلة الحاسبة، لا القلب. لا تؤمن بأن الحب يُؤكِّل أو يَدفع الفواتير، ولذلك حين وضعتها الحياة أمام خيار القلب او العقل… اختارت الحساب، لا الإحساس! وهنا تجلّت براعة سمارة نهرا، فهي لم تؤدِّ شخصية “ميمي” كمجرد نكتة، بل صنعت منها مزيجا من الطرافة والشفقة، من الضحك والمرارة. جعلتنا نضحك عليها أحيانا، ونضحك معها أحيانا أخرى، وفي بعض اللحظات… نحزن لأجلها بصمت. هي شخصية يمكن أن نراها في الجارة، أو القريبة، أو حتى فينا نحن اذا دققنا كفاية، لأن ميمي لم تكن كاريكاتورا، بل انعكاسا طريفا لجانب واقعي في مجتمعاتنا.

Screenshot
“مش ممكن” في مجال الكوميديا أن ننسى اداءها الاستثنائي في “مش أنا ” (2016 – تأليف كارين رزق الله، إخراج جوليان معلوف)، حين جسّدت شخصية “سلوى” المرأة المتقدّمة في السن التي تلهث خلف حلم الزواج، فجمعت بين الشفقة والضحك، بين الطرافة والوجع المكتوم.
الحياة لم تكن دائما باللون الزهر في حياة “روز”. روز ما غيرها، حشورة وثرثارة مسلسل ” بالقلب” (رمضان 2020، كتابة طارق سويد، إخراج جوليان معلوف، إنتاج G8 برودكشنز، منتج منفذ مي ابي رعد). “روز ” هي التحوّل الكبير في مسيرة سمارة نهرا، شخصية تلامس حياة الناس اليومية، وتحاكي بيئتهم بلغة يفهمونها.
هي تلك السيدة العزباء التي تسكن في كل حيّ لبناني. امرأة وحيدة، فضولية، تتغذّى على حكايا الجيران وتضيف إليها “الملح والبهار” على طريقتها. قد تكون مزعجة، لكن لا أحد يستطيع أن يكرهها. لم تكن سمارة تنطق بالحوار فقط، بل كانت تعيشه، تُحرّكه بنبرة صوتها، بحركة عينها، وبإيقاعها الداخلي الذي لا يُعلَّم. بدت عفويتها أقرب إلى الارتجال، حتى أن المتفرج كان يشعر أحيانا أن ما تقوله ليس مكتوبا بل صادرا عن الشخصية نفسها. هذا ما جعل جُمل “روز” ومواقفها تتحوّل إلى مادة يومية للتفاعل على مواقع التواصل، بين الضحك والنقد والسخرية، لكنها في كل الحالات بقيت حديث الناس.

Screenshot
صحيح الحياة لم تكن دائما la vie en Rose بالنسبة الى “روز” في مسلسل “بالقلب”، ولكنها تحوّلت سوداء قاتمة بالنسبة الى ” إكرام”، في مسلسل “بالدم”( رمضان 2025- تأليف ندين جابر، اخراج فيليب اسمر، انتاج ايغل فيلمز). مرت السنوات، وتعددت الأدوار، و جاء «بالدم»، ليدمي قلب إكرام من جهة، و “ليبيّضها” مع سمارة نهرا من جهة ثانية، فهو وضعها في إطار جديد، من ممثلة كوميدية خفيفة الظل، الى ممثلة درامية ثقيلة الأثر ايضاً. بخوف دخلت سمارة عالم الدراما وروح امرأة اضطُرت إلى التخلي عن طفلتها لحظة الولادة، تحت ضغط الظروف أو العار أو القهر ، لا فرق. شخصية هي الأكثر وجعا وصمتا وصدقا. كيف لا ؟ وهي امرأة اضطُرّت أن تتخلّى عن قطعة من روحها، لا لأنها أرادت، بل لأن الحياة دفعتها إلى الحافة حيث لا خيار آخر. وإذا كان التخلّي قد تم في لحظة، فإن الندم امتدّ لعمرٍ كامل. وحتى بعد زواجها وإنجابها ثلاثة أولاد، ظلّت الخسارة ظِلّاً يرافقها في كل مشهد. حتى وهي تحتضن أبناءها، كانت الكاميرا تفضح نظرتها ، فدائما هناك غياب ما، طفل ناقص في الصورة، نَفَس لم يكتمل، جرح لم يندمل، غمرة لم تُحضن تماما.
ما جسّدته سمارة في ” بالدم” لم يكن فقط ألم الأمومة،بل خريطة كاملة للحزن المُخبأ، ذلك الحزن الذي لا يصرخ، لكنه يأكلنا من الداخل. بصوت منخفض، بلا صراخ ولا افتعال، بل بشفافية مؤلمة، قدّمت سمارة أداءً يُدرَّس، وأثبتت أنها ليست ممثلة نوع، بل ممثلة وجدان، قادرة على خوض أكثر المشاهد تعقيدا بأدوات داخلية صامتة لكنها جارحة. هذا النوع من الأداء ، يتطلّب فهما عميقا للشخصية، وخبرة طويلة في تحويل النص المكتوب إلى نبض حيّ. وسمارة تملك هذا كله، لأن خلف شخصياتها مرجع طويل من المسرح، ومن التدريب الصوتي، ومن الخبرة التي لا تأتي دفعة واحدة.

Screenshot
قد لا تتصدّر سمارة نهرا “البوسترات”، ولكنها غالبا ما تكون سببا في نجاح المسلسل، أو على الأقل في جعله يُحفظ في الذاكرة. أداؤها لا يُقاس بعدد دقائق الظهور، بل بما تتركه تلك الدقائق من أثر. أصلاً مَن قال إن البطولة تُقاس بالحجم؟ أحيانا، تكفي جملة واحدة، أو حتى نظرة، لصناعة مجد تمثيلي لا يُنسى. صحيح أن اسم سمارة قد لا يأتي أولا في الترتيب، ولكنه دائما “بالقلب”، وموهبتها تسري “بالدم”،ففي عالم يميل إلى الاحتفاء بالصوت الأعلى، والضوء الأقوى، تبقى سمارة نموذجا للفنانة التي اختارت أن تمشي بهدوء، لكن بثبات، وأن تترك لأعمالها مهمة الدفاع عن موهبتها. ونجحت.

Screenshot

Screenshot