فن ومشاهير
“صوت هند رجب”: حين يتحول نداء طفلة إلى شهادة إنسانية تهز العالم

جوزيفين حبشي
تصفيق متواصل لمدة 23 دقيقة متواصلة ، بعد انتهاء عرضه العالمي الاول، يوم الاربعاء 3 سبتمبر ، في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي 2025. دموع سالت بصمت، وتأثر كبير شهدته قاعة سالا غراندي (Sala Grande). المخرجة التونسية كوثر بن هنية رفعت صورة طفلة ، الحضور رفع أعلام فلسطين. نجوم هوليوود امثال براد بيت وخواكين فينيكس، روني مارا، ألفونسو كوارون، وجوناثان غليزر رفعوا مستوى الوعي الانساني باهمية الفن في ايصال رسائل تهز ضمائر العالم، بمشاركتهم كمنتجين تنفيذيين للفيلم.
عن أي فيلم نتحدث؟ إنه “صوت هند رجب” الذي شاركت شبكة راديو وتلفزيون العربART في انتاجه، والذي صممت المخرجة التونسية كوثر بن هنية ان تعيد للإنسان صوته، وللطفولة براءتها المسروقة، من خلال توثيقه بكاميرا صامتة، نداء استغاثة بات رمزاً للوجع الفلسطيني في وجه الإبادة الصامتة.

Screenshot
للأسف، صوت الطفلة الفلسطينية هند رجب ليس مجرد “سينما” أو سيناريو فيلم دراما واكشن، قد يُنسى بمجرد الخروج من قاعة العرض. إنه مأساة حقيقية.في شهر كانون الثاني/ يناير 2024، كانت هند رجب، الطفلة الغزاوية ابنة الستة أعوام، تحاول النجاة مع عائلتها من قصف إسرائيلي عنيف في حيّ التفاح، غزة. لجأوا إلى سيارة للهروب، ولكن لا مفرّ. استُشهد جميع من فيها، وبقيت هند وحدها على قيد الحياة، محاصَرة بين الجثث، خائفة، جائعة، ريشة في مهب العاصفة وفي وجه القدر.
بيد مرتعشة وصوت متقطع، اتصلت هند -بهاتف العائلة- بالهلال الأحمر الفلسطيني، وقالت:
“أنا خايفة.. أرجوكم تعالوا خدوني.”
لم يتمكن المسعفون من الوصول اليها لحملها الى الأمان، فقد غرق فريق الهلال الاحمر بأحمر الدم بعدما استُهدفت سيارة الإسعاف التي كانت في طريقها لإنقاذها. وعُثر لاحقًا على جثتها وجثث المسعفين بعد اثني عشر يوما من فقدان الاتصال بها.

Screenshot
“أنا خايفة.. أرجوكم تعالوا خدوني“. صوت هند الذي انتشر , خرق روح كاتبة السيناريو والمخرجة التونسية كوثر بن هنية التي تُعرف بدعمها القضايا النسوية عبر سينما إنسانية وقوية، وبتركيزها على قصص النساء وقضاياهم الاجتماعية بجرأة وصدق وواقعية. كوثر هنية ، صانعة افلام”بنات ألفة” و”على كف عفريت” و”الرجل الذي باع ظهره” ، ليست مجرد مخرجة، بل ظاهرة ثقافية عربية تُغيّر الطريقة التي يُرى بها الواقع عبر العدسة السينمائية. صوت هند الذي وصلها ، هز كيانها فتوقفت عن مشروع سينمائي آخر كانت تعمل عليه، وقررت توثيق هذا الصوت، حتى لا يصمت كصاحبته.
تواصلت كوثر مع الهلال الأحمر، واستلمت تسجيل المكالمة الكامل، الذي امتد لأكثر من ساعة. سمعت فيه هند تتحدث عن البحر، عن أحلامها، عن أمها، عن بيتها، عن الخوف. بدورها كوثر بن هنية كانت خائفة أن تخون صوت هند. لم ترغب أن تحوّلها أيقونة، بل إنسانة. طفلة مثل أي طفلة.
ولهذا السبب اختارت بن هنية أسلوبا سرديا غير اعتيادي. لا مشاهد عنف، لا صور صادمة، لا استدرار رخيص للمشاعر. كل أحداث الفيلم تدور في غرفة عمليات مركز الإسعاف، حيث تُسمع مكالمة هند كاملة، بينما يتفاعل الطاقم معها في محاولة يائسة للوصول إليها. وبين الصوت والصمت، بين الأمل والرعب، تتحول القاعة إلى مرآة لجمهور العالم: ينتظرون شيئا لن يحدث، ويسمعون شيئا لا يمكن نسيانه.

Screenshot
مدهشة بن هنية في اصرارها على واقعية ، وحدها قد تحرك الرأي العام. تصوّروا انها لم تعط النص للممثلين الذين قاموا بدور المسعفين. هم استمعوا الى التسجيل الصوتي لأول مرة في حياتهم اثناء التصوير، وهي سجّلت انفعالاتهم وردود أفعالهم الطبيعية بالكامل. انفعالهم لا يقل وجعا عن انفعال نجوم كبار من هوليوود، وقفوا مع الانسانية لا السياسة والمصالح بين الدول، وقرروا المشاركة في تنفيذ إنتاج الفيلم. ابرزهم براد بيت من خلال شركته Plan B ، وخواكين فينيكس وروني مارا والمخرجين ألفونسو كوارون، وجوناثان غليزر. لماذا؟ لأن “صوت هند رجب” ليس فقط فيلما عن الطفولة، بل شهادة سينمائية عن الغياب، عن انتظار العالم الذي لم يأتِ، عن الطفولة المسحوقة تحت صمت الكاميرات وحياد المجتمع الدولي. هو تذكير بأن الأصوات الصغيرة قد تكون أبلغ من كل الضجيج السياسي، وأنّ في فيلم بسيط بصريا، تكمن قوة الحقيقة العارية. كوثر بن هنية لم تكن تبحث عن قصة تُروى، بل عن صوت لا يجب أن يُنسى.
لا الصوت سينسى ولا الفيلم سينسى، خصوصا ان حظوظه كبيرة بالفوز بجائزة الاسد الذهبي في فينيسيا يوم السبت 6 سبتمبر، رغم المنافسة الشديدة في المسابقة الرسمية التي تضم 20 فيلم آخر .
لقد وصفته تقارير نقدية عالمية بأنه مرشح قوي للجائزة بفضل تفاعله العميق والرسالة الإنسانية التي يحمله. ايضا جائزة اوسكار واردة جدا بعدما تم اختيار الفيلم رسميا لتمثيل تونس في الأوسكار 2026، عن فئة أفضل فيلم اجنبي. ولكن هل ستحصل بن هنية على ترشيح للاوسكار كما سبق ان حصل مع فيلميها ” الرجل الذي باع ظهره” و” بنات الفة”؟ هل يمكن لفيلم يدين اسرائيل وجرائمها ضد الانسانية في غزة، أن يصل للأوسكار وأن يفوز؟ الجواب نعم. قوة الفيلم فنيا وإنسانيا عامل مهم، ف “صوت هند رجب” يجمع بين الوثائقي والدراما بأسلوب مبتكر، ما يمنحه ثقلا فنّيا. كما ان تفاعل النقاد العالميين (Vogue، Variety، Reuters) كان إيجابيا جدا ، ووصفوه بأنه “مؤلم، إنساني، وجريء” ، وهذا ما تبحث عنه الأكاديمية أحيانا في الأفلام الدولية. ايضا، مجرد ترشيحه في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا يجعله تلقائيا على رادار جوائز الأوسكار. وفي حال فاز بجائزة الأسد الذهبي أو جائزة لجنة التحكيم، فذلك سيعزّز فرصه ترشيحا على الأقل. هذا من دون ان ننسى الدعم الذي تلقاه من أسماء ثقيلة في الإنتاج، فوجود ألفونسو كوارون وجوناثان غليزر كمنتجين تنفيذيين يعطي الفيلم وزنا كبيرا في الأوساط السينمائية الدولية، بما فيها الأميركية. هذه الأسماء لها نفوذ في الأوسكار ولجان التوزيع.
صحيح هناك نفوذ واضح لإسرائيل ولوبيات داعمة لها في هوليوود، ويظهر ذلك في التغطية الإعلامية والتوجهات السياسية للمؤسسات الكبرى. وصحيح أن كثير من الفنانين الأميركيين يتجنّبون الدعم الصريح لأي محتوى يدين إسرائيل بشكل مباشر خوفا من فقدان فرص أو التعرض لهجوم. لكن… هذا لا يعني أن صوت الفيلم سيُقمع. الاكاديمية منحت العام الماضي اوسكار أفضل فيلم اجنبي لفيلم “The Zone of Interest”، وهو فيلم بريطاني ألماني يدين الجرائم النازية من خلال تصوير جيران معسكر أوشفيتز. بدوره المخرج جوناثان غليزر، الذي أنتج “صوت هند رجب”، ألقى كلمة نارية في الأوسكار 2024 ، انتقد فيها استخدام الدين لتبرير القتل، في إشارة غير مباشرة إلى إسرائيل، وتعرّض لهجوم كبير… لكنه فاز.
” صوت هند رحب” هو صوت الانسانية، والانسانية مهما نامت في الضمائر، لا بد ان تستيقظ . أنها سنة الحياة، فبعد كل ليل ، نهار . وبعد كل غروب، شروق، مهما تأخر الوقت.