منوعات
قمر… إنفجر قلبه عشقاً
جوزيفين حبشي
الليلة، شاهدتُ من شرفتي في بيروت قمراً ليس ككل الأقمار…كان وجهه محتقناً بلون الدم، كأنّه قلب مكسور في السماء. ليس احتراقاّ، لا… بل شهوة وحنيناً .
القمر، هذا العاشق الصامت، ظلّ يدور، ويضيء، وينتظر ساعة اللقاء… لقاء حبيبته بشعرها الغجري المغسول والمفلوش على خيوط الشمس . يحبها ذلك الحب المستحيل، فهي بعيدة، مشتعلة، تمنحه كل شيء… إلا العناق.
الكل شاهده هذه الليلة. أما أنا فسمعته. كان يهمس لي: أتعرفين ما معنى أن يُحبّني الضوء… ولا استطيع لمسه؟ أتعرفين ما معنى أن أكون مرآةً لامرأةٍ لا تنظر إلي…تتركني أدور حولها عمراً، ثم تشرق علي… من بعيد؟
يبتسم لي بسخرية ويتابع: أنا القمر…العاشق الوحيد الذي لا يُغفر له العناق. كل ليلة، أرتجف من لهفتي عليها. أقابلها في الفجر، أو ألمح طرف ثوبها عند الغروب…وأسير خلفها، ذليلا، مجنونا، صامتا.
كل نوري منها… كل وهجي منها… كلّي، منها. ولكنني لم ألمسها قط…ومع ذلك، أعرف ملمسها عن ظهر قلب. أعرف كم يحترق الهواء حين تمر، وكيف تتلوّن ذرات الفضاء عندما تهمس، وكيف يئنّ الكون إذا رفّت لي برموشها…
أنا القمر…تدوّرني شهوة اللقاء، لا الجاذبية. كل ليلة، أفتح صدري للضوء، أستلقي في مدارها… عاريا من الكبرياء،مصلوبا في انتظار قبلة مستحيلة.
ولكن الليلة… اعترضت الأرض رغبتي الجامحة بها. غارت. حشرت جسدها العجوز بيننا، منعت عشيقين من الافتراس الجميل. لم أصرخ . فقط، إنفجر قلبي. وسال دمي على وجهي، كلون القبلة التي لم تحدث…كندبة بين فخذين لم يلتقيا.
يضحك بمرارة ويسالني: هل سمعتِ من قبل عن قمرٍ يُسحق من فرط الرغبة؟ قمرٍ ينزف لأنه لم يستطع أن يمارس حبه؟ أنا ذاك القمر، أدور حولها كعاشق ولهان، أعبد حرارتها، أرتعش من سطوعها، ولا أحظى إلا ببقايا ضوءها… هل هذا عدل؟ هل هذا حب؟ أم تعذيب من نوعٍ كونيّ، ناعم، بطيء، شهواني؟
يهمس، صوته ينخفض، كأنه ينوح: لو كنت حجراً حقًا كما تظنين، لما نزفت هذا الليل…لكنني عاشق. وجسدي كله يشتعل حين تقترب، ويتمزق حين تحجبها الأرض عني.
يغمض عينيه، كأنه يراها تمر في خياله؛ أقسم…لو التقتني مرة، فقط مرة، لأريتها كم من العشق يمكن أن يختزنه حجر. لجعلتها تفهم أن مدار العشق… ليس دائريا، بل التحاماً يولّد شهوة قادرة أن تذيب حتى الشمس . لكنني لا ألومها… أنا اخترت هذا الجنون. أنا من أحببت المستحيل. أنا القمر، ولِدتُ من حجر،لكن قلبي من نار. واليوم فقط…عرفت أن النار حين تُحب، تحرق نفسها. لا تحزني عليّ، فكل عاشق يُنير العالم، لا بد أن يدفع الثمن. وغداً… حين تشرق من جديد، سأبتسم لها، سأنسى، وسأدور، كما كنت أدور. وكأن شيئا.. لم يكن.
