فن ومشاهير
“مسألة حياة أو موت”… رومانسية جديدة على السينما السعودية، كُتبت بشغف وعُرضت بشجاعة
جوزيفين حبشي
لم أكن أتوقع أن يطرق فيلم باب قلبي بهذه الطريقة، أن يضعني في عالم صغير لكنه مكتمل، مليء بالضحك والوجع والدهشة في آن واحد. لم أكن أبحث عن فيلم يغيّر شيئا في داخلي، لكن الفيلم السعودي “مسألة حياة أو موت” فعل ذلك دون أن يستأذن. شاهدته في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي دون توقعات كبيرة، وخرجت منه وأنا أشعر كأن أحدهم مرّر يده على صدري وربّت على خوفي القديم من العمر، ومن الفقد، ومن الوحدة.

Screenshot
“مسألة حياة أو موت” لم يكن مجرد مشاهدة، كان احتضانا حنونا لكل خوف دفين، لكل لحظة ضعف كنت أخفيها عن نفسي. منذ اللحظة الأولى شعرت أنني أمام فيلم يعرف كيف يلمس الروح رغم كونه يرتدي قناع الخفة، وكيف يجعلني أضحك وأشعر بالوجع في نفس الوقت، وكأن صوتا ما يهمس لي: “الحياة أحيانا مضحكة وأحيانا مبكية، لكنها دائما قصيرة، لذلك تستحق أن تُعاش”.
فاجأني الفيلم لأنني لم أتوقع من فيلم سعودي، يغطس للمرة الأولى في بحر الرومانسية تحديدا، أن يذكّرني بتلك الأفلام الرومانسية الكوميدية العميقة والفانتازية التي كنت أظن أن لا أحد يستطيع أن يقترب من سحرها. كان اكتشافا دافئا، مفاجأة حقيقية، وجرعة صادقة من السينما التي تضحكك وهي تربّت على جرحك، وتدهشك وهي تهمس لك بالحياة. ومنذ المشاهد الأولى شعرت أنني أمام عمل يعرف تماما ماذا يريد أن يقول، وكيف يريد أن يُشعر، وكيف يصنع عالميته من جذوره. هذا الفيلم حاول أن يكون صادقا فقط، وهذا وحده كان كافيا ليأسرني.
يقدّم “مسألة حياة أو موت” تجربة سينمائية سعودية تتجاوز حدود النوع والهوية المحلية لتلامس منطقة إنسانية خالصة يصعب الإفلات منها. فبهذه الكوميديا السوداء الممزوجة برومانسية عميقة ونادرة على الشاشة السعودية، يخلق المخرج أنس باتهاف والكاتبة والممثلة سارة طيبة رحلة عاطفية تحتفي بالحياة وهي تتصارع مع ظل الموت، وتحتفي بالحب وهو يتسلل من بين الشقوق المظلمة دون إذن.

Screenshot
الملفت أيضا أن فيلم “مسألة حياة أو موت” يملك دهشة البداية ونضج التجربة في آن واحد. فيلم يعرف كيف يضحك بذكاء، وكيف يوجع برقة، وكيف ينساب في الروح كاعتراف شخصي أكثر منه حكاية تُروى. ليس غريبا أن تحمل كاتبته وبطلته سارة طيبة هذه النبرة الشفافة في كتابتها وأدائها، فهي عاشقة قديمة لأفلام الرومانسية الكوميدية العميقة، من نوع When Harry Met Sally. أفلام لا تخجل من المزج بين المرح والفلسفة، بين الحب والخوف، بين السخرية والحقيقة. وهذا العشق ينعكس في كل نفس من أنفاس الفيلم، في كل سطر، وكل نظرة تُقال قبل أن تُنطق.
ويزداد فخري حين اعلم أن أحد منتجي الفيلم هو اللبناني جان لوكا شقرا (شركة فرانت رو ) اضافة الى محمد حفظي، أحمد طعيمة، سارة الغبرة وأنس باطهف. وهذا ما يؤكد أن لبنان دائما حاضر حيث يُولد الإبداع ويُصنع الفن. هذه المشاركة اللبنانية ليست مجرد دعم إنتاجي، بل هي شهادة على روح التعاون الفني التي تتجاوز الحدود، وتجعل الفيلم سعودي الهوية وعالمي الروح في الوقت نفسه. لبنان هنا، كما دائما، موجود حيث ينبض الإبداع.
يأخذنا الفيلم إلى مدينة جدة، لكن جدة هنا ليست مجرد مدينة أو خلفية، بل هي مزاج، نبض، كائن يتنفس بجانب أبطاله، وروح ثالثة تحاصر الشخصيات بضوئها وحنينها، بهشاشتها وقوتها وسحرها. ورغم أنه سعودي حتى العظم في روحه ولهجته ومفارقاته، إلا أن “مسألة حياة أو موت” يمتلك تلك اللمسة التي تجعل قصته صالحة لكل زمان ومكان، كأنها حكاية بشرية أقدم من الحدود وأقرب من القلب.
في قلب الحبكة تقف حياة (سارة طيبة)، الشابة التي تؤمن بالخرافات أكثر مما تؤمن بنفسها، وتعتقد أن لعنة ستجعلها تفقد حياتها في ليلة عيد ميلادها الثلاثين. تتشبث بفكرة الانتصار على مصيرها عبر السيطرة عليه، حتى لو كان ذلك يعني أن تسبق القدر إلى اعلان نهايتها. لكن ما يبدو في ظاهره نزهة يائسة نحو الموت، يتحول تدريجيا إلى رحلة بحث عن معنى الحياة نفسها. هذا التطرف في الخوف، وهذا الذكاء في معالجته، يجعلان الشخصية واحدة من أكثر الشخصيات النسائية سحرا وعمقا في السينما السعودية الحديثة.
وفي الجهة المقابلة يقف يوسف (يعقوب الفرحان)، طبيب القلب الذي لا ينام، لا يبكي، لا يشعر، ولا يسمع قلبه. رجل تتباطأ نبضاته إلى درجة يصبح فيها الموت مجرد فرقعة كهربائية صغيرة، ولا يجد الأدرينالين إلا عند ذبح خروف أو حين يفتح صدر مريض. شخصية تملك غرابة محببة تكشف هشاشة داخلية لا يعترف بها.
لقاء حياة ويوسف ليس لقاء عاشقين، بل لقاء جرحين يسيران باتجاه بعضهما دون وعي، وكل منهما يبحث عن شيء لا يعرف اسمه. لا أحد ينقذ الآخر، ولا أحد يكمل الآخر، بل كل منهما يتعلم كيف يرى نفسه من خلال الآخر، ليكتشفا أن الشفاء ليس علاجا، بل علاقة حب، وأن الحب ليس خلاصا، بل ضوء صغير يظل يلمع مهما ازدادت العتمة.
الفيلم مكتوب بإحساس كبير، كتابة تفهم السخرية كأداة للنجاة، وتفهم الرومانسية كاعتراف، وتفهم الكوميديا السوداء كمرآة لا ترحم. ويأتي إخراج أنس باتهاف ليصوغ هذه الأفكار بلغة بصرية ساحرة، تحوّل جدة إلى امتداد نفسي لشخصيتي العمل، وتمنح كل مشهد قدرة على احتضان الضحك والخوف في اللحظة نفسها. المونتاج يرقص بإيقاع محسوب، والصورة تُشبه قصيدة ضوئية، والكاميرا تعرف كيف تلتقط المدن كترجمة للحالة النفسية، وكيف تُضيق المشهد حين تشتد العزلة، وكيف تفتح الأفق حين تبدأ الروح بالالتئام.

Screenshot
أما الأداء التمثيلي فمشغول بحساسية تجعل الضحك امتدادا للألم، وتجعل الخوف يبدو إنسانيا لا دراميا. سارة طيبة تؤدي دور حياة بسحر خاص، بكاريزما لا مثيل لها، بذكاء لا يصرخ، وبقوة لا تتكلف. ويكمّلها أداء يعقوب الفرحان بنبرة هادئة تخفي عاصفة داخلية.
“مسألة حياة أو موت” فيلم يُضحكنا لأن الحياة مضحكة فعلاً حين نقف على حافتها، ويؤلمنا لأنه يقول الحقيقة دون خوف، ويؤثر فينا لأنه يرى الإنسان قبل أن يرى الحكاية. في هذا الفيلم، لا أحد ينقذ الآخر، ولا أحد يُكمل الآخر، بل كل منهما يصبح شاهدا على وجع الآخر ومرآة تكشف ما يهربان منه. الفيلم يُقدّم الحب كعلاج، لا كحل سحري، كفرصة للتنفس، لا كخرافة. وهنا يكمن جماله: يشفي دون أن يدّعي، ويُضيء دون أن يعظ. وبقدر ما هو سعودي الهوية، هو عالمي الروح، يصلح لأن يُشاهَد في جدة، نيويورك، بيروت، أو أي مدينة أخرى تبحث فيها الأرواح عن معنى وعن نبضة تستحق البقاء. إنه الفيلم الذي يجعل المشاهد يضحك كي لا يبكي، ويبكي لأنه أحب، ويخرج من القاعة وهو يشعر أن الحياة هشّة، نعم… لكنها تستحق أن تُعاش حتى آخر نبضة. عمل سعودي بجرأة عالمية، يضع صانعيه في صفّ المبدعين الذين يحوّلون السينما إلى تجربة تتردد صداها طويلا بعد انطفاء الشاشة. “مسألة حياة أو موت” يثبت أن السينما السعودية لا تتقدم فحسب… بل تتجرأ، وتُحب، وتُدهش.

Screenshot
