نوال كامل: وجه لا يتجمّل، لكنه يُبهر. موهبة لا تتكلف، لكنها تدهش

جوزيفين حبشي

في زمنٍ طغت فيه البهرجة على الموهبة، والاصطناع على العفوية، تبقى نوال كامل واحدة من القلائل الذين يختارون الصدق طريقا، العفوية اسلوباً، والأداء الحقيقي سلاحاً. ممثلة لبنانية بطابع الـVintage الأصيل، جمالها وفنها يتحديان الزمن. أتقنت الكوميديا كما الدراما، وأثبتت أن قوة الممثل لا تُقاس بحجم الدور، بل بعمقه، ولا بعدد المشاهد، بل بمدى اختراقها لقلب المتفرج.

Screenshot

منذ إطلالتها الأولى بدور “سعاد” في مسلسل “العاصفة تهب مرتين”، خطفت نوال الأنظار. أدّت شخصية “البترونة” بطريقة جعلت الناس يحبونها رغم كرههم لمهنتها، لأنها أدخلت إلى الدور  إنسانيتها وتلقائيتها وطرافتها  التي أصبحت فيما بعد بصمتها الخاصة. لم تكن “سعاد” مجرد شخصية، بل كانت امرأة من لحم ودم وعفوية وابتسامة، وذلك كان وعد اتخذته نوال كامل على نفسها: “سأقدّم الإنسان، لا القناع.”

Screenshot

في زمن تستيقظ فيه الممثلة بتسريحة كأنها خارجة من افخم صالون تصفيف شعر  ، وبماكياج  عشرة على عشرة، ينافس ابداع  بسام فتوح ونبيل مخول، ظهرت نوال كامل في مسلسل “خمسة ونص” بسحر تجاعيدها وارهاقها وشعرها المربوط على عجل. كانت نوال صوت الصبر وكبرياء الوجع، بدور مدبرة القصر، الأم المقهورة التي تتماسك رغم الانكسار، وتُخفي دمعتها خلف ستار من الصمت النبيل. أدّت الدور بحساسية جعلتنا نختنق معها دون أن تبكي كثيراً. كانت مشاهدها قليلة، لكن كل مشهد كان يفيض بالمشاعر. يكفي نظرة، تنهيدة، حتى ينقلب المشهد إلى ساحة من الأحاسيس المتفجّرة.

Screenshot

Screenshot

ثم جاءت سلسلة “للموت” ، وتحديدا الحلقات الأخيرة من الجزء  الثاني، فظهرت “شهيرة”، “باترونة” لا تشبه بتاتاً سعاد في “العاصفة تهب مرتين”.   مرورها السريع والقصير في هذا الجزء كان هو العاصفة بحد ذاته. عاصفة هبّت مرات ومرات رغم دورها القصير. عاصفة اشبه بذوبعة اداء ، ضخّت هواءً باردا في الاوصال، جمّدت الدم في العروق، واشعلت بنظراتها براكين وحرائق.  ظن البعض ان ” شهيرة” شخصية عابرة، فإذا بها تترك أثراً لا يُنسى. اداء  نوال بدور “شهيرة” استثنائي بكل ما للكلمة من معنى ، فرغم صغر مساحته، حوّلت كامل  الشخصية الثانوية رمزاً يُذكر، وكأنها تقول: “لا توجد أدوار صغيرة، بل ممثلون كبار”. وأثبتت ذلك بفوزها المستحق بجائزة موركس دور، لتُكرَّم على قدرتها في تكثيف التجربة الإنسانية حتى في أقل المساحات.

Screenshot

لم تحترف التمثيل “ع امل” ان تصبح “شهيرة “، ولم يكن لديها يوما أي  “رجاء” بأن تكون نجمة ادوار اولى. كان يكفيها ان تلمع موهبتها كما تلمع النجمة في كبد السماء. ولمعت في “عَ أمل”. كانت “الحجة رجاء”، تلك المرأة والأم  والجدّة التي تعيش في مجتمع ذكوري  ظالم، يخنق المرأة ويقمع حقوقها، مجتمع لا يتردّد في قتل المرأة باسم “العار”. ورغم أنها ابنة هذا النظام القاسي، حملت في داخلها بقايا تمرّد خافت، ووقفت مع بناتها في وجه القدر،  بقدر ما تسمح به الظروف. لم تكن ثورية، لكنها لم تكن صامتة وخانعة. أدّت نوال هذا التناقض بصدق مؤلم، مجسّدةً التحوّل البطيء داخل امرأة تحاول أن تنحاز للحق، حتى لو بصوت منخفض.

كفراشة، تخرج نوال كامل من شرنقة المأساة المؤلمة، لتحلّق في فضاءات  الميلودراما المغلفة بالطرافة ، كما تغلف قطرات الندى  وردة يسيل من شوكها الدم.  في “بالدم”، قدّمت نوال دور فدوى، الجارة  الاخت والسَنَد ، و الأم التي لا تخلو من الطرافة، ومن الاصرار على  حمل حفيد  يُسمّى “حكمت” على اسم زوجها الراحل. بدت الشخصية للوهلة الأولى بسيطة، لكنها في العمق تمثّل شريحة واسعة من الأمهات اللواتي يعيشن بين الحنين والواجب العائلي، بين الذكرى والرغبة في الاستمرارية. بأدائها المتوازن بين الدراما والكوميديا، صنعت نوال من فدوى شخصية محبوبة، خفيفة الظل، لكن لها وزنها في روح المسلسل.

Screenshot

ما يميّز نوال كامل ليس فقط أداؤها العفوي  والفطري والعميق، بل موقفها من المهنة. فهي لا تلهث خلف “الصورة”، ولا تُعدّل وجهها لتجاري السوق، بل تؤمن أن رأس مال الممثلة الحقيقي هو في ملامحها الحقيقية، في تعابير وجهها، في رعشة يدها، في الصدق الذي لا يُشترى ولا يُصنع. لا تُفرّط بمساحتها الداخلية لحساب التقنيات، ولا تُقايض عمق الشخصية ببريق الشهرة. نوال كامل ليست مجرد ممثلة. هي روح تتجسّد . حنجرة لا تصرخ، لكنها تُسمع. وجه لا يتجمّل، لكنه يُبهر. موهبة لا تتكلف، لكنها تدهش. إنها أشبه بمشهد طويل من الحياة، كلما شاهدته، اكتشفت فيه طبقة جديدة من الإحساس. كلما شاهدتها، شعرت أن الشاشة تنبض، وأن الإنسان، بكل ضعفه وقوته، عاد ليكون بطل الحكاية. 

Screenshot