ثقافة
هنا… نموت ببطء

جوزيفين حبشي
في لبنان، لا نموت فقط من مرض أو انفجار أو حرب أو رصاصة طائشة.
في لبنان نموت من أوجاع لا تُرى تحت المجهر ولا في تقارير طبّية ولا تُعالَج في المستشفيات. نموت من خيبات تُكدّس في الصدر حتى يضيق النفس.
نموت من أحلام اصطدمت بجدار الواقع الأسود، ومن خذلان متكرر سلبنا الإيمان بأن هذا الوطن يستحق الحياة. نموت من أحلام ٍ زُرعت في أرواحنا صغاراً، سُقيت بالأمل، ثم ذَبُلت تحت شمس واقعٍ أسود لا يرحم. نموت من شوارع امتلأت بالحفر، لا فقط في الأرض، بل في قلوبنا.
نموت من دولة سرقت قوتنا على مدى عقود، واستباحت تعبنا على مدى عقود ، ومن حكّام ٍ فاسدين على مدى عقود ، أطفأوا نور الأمل، ووعدونا بكهرباء لم تأتِ، وفرص عمل لم تزهِر وبغدٍ لم يُولد. نموت من دولة امتصت دماءنا، نهبت جنى عمرنا المادي والمعنوي على حد سواء، واستهزأت بأوجاعنا. نموت من طبقة حاكمة أطفأت كل بصيص أمل، ووعودها لم تتجاوز عتبة إصلاحات لم تُولد حتى الان.
في لبنان نموت من وطن لا يحتفي بالكفاءة بل يحتكم للمحسوبيات والولاءات، حيث النجاح مرهون بمدى قربك من “الواسطة”، لا بمدى عمق فكرك أو موهبتك أو اجتهادك. نموت من انعدام الفرص، من مكاتب مغلقة في وجوه من يحملون الشهادات والموهبة والطموح. نموت من ذبول قسري ورحيل قسري، من وطننا ومن داخلنا، نموت حين يصبح النجاح حكراً على من يصفقون للفراغ، ويتبعون الترند، بينما يُقصى المبدعون الحقيقيون لأنهم لم يركبوا الموجة.
نموت من مجتمعٍ سخيف، ينبهر بالبهرجة ويصمّ أذنيه عن صوت الفكر، ويغضّ بصره عن الجمال الحقيقي. نموت حين يصبح صاحب المحتوى الهادف غير مرئي، بينما يُرفع “البالون المنفوخ” على منصات الشهرة، رغم خوائه من الداخل. نموت حين يعطي الجاهل حكمه على عاقل، ويِعلّق الغبي على الذكي، وتصبح السخافة هي الثقافة الجديدة.
نموت من بيئة مريضة، ملوثة، لا تسمح بالنمو إلا إذا كان على أنقاض الغير. من بيئة لا تتنفس سوى التنمّر والخذلان. من ألسنة مسمومة لا تطيق رؤية النجاح في سواها، حتى لا يُفضح فشلها، ومن نفسيات لا تستطيع أن تعيش دون أن تبث سمومها في دروب الآخرين، لأن السموم هي فيتامين دربها. نموت كل يوم، لا بالجسد فقط، بل بالروح، بالأمل، بالشغف، بالكرامة. نموت لأننا نحلم ولأننا نؤمن أن الموهبة يجب أن تُكرّم، لا أن تُدفن تحت أقدام التافهين. وهذا، في لبنان، صار جريمة لا تُغتفر.
كفى موتاً…اسمحوا لنا أن نتنفّس. أن نتأمل. أن نتمنى أن يتغيّر هذا الوضع القاتل. أن يأخذ الوطن ما يستحقه من عدالة وكرامة. وأن يأخذ كل صاحب موهبة حقيقية ما سُرق منه من تقدير، على يد من لا يملكون من المقوّمات إلا “الهواء”.. إلا “الهراء”… إلا “الغباء”.
اسمحوا لنا أن نصدّق لمرة واحدة فقط ، أن ما نملكه ، لن يذهب، كما يذهب كل شيء قيّم عادة في هذا الوطن …هباءً في هباء!!!

Screenshot