Connect with us

ثقافة

مارك قديح، عمّار شلق ويوسف الخال، أنتم إنتاج عالمي

Published

on

جوزيفين حبشي

وعاد مارك قديح. عاد بعد غيبة عشرين عاما، لكنّه لم يعد مُحمّلاً بأي تفاؤل بمستقبل أفضل. عاد مأزوما من أزماتنا نحن اللبنانيين، الفنية والوطنية والاجتماعية والسياسية والنفسية. عاد ليقول لنا إننا جميعا في المغطس نفسه، مربوطون بالمصير ذاته، ندور في حلقة مفرغة لا نجرؤ حتى على الاعتراف بها.

على الخشبة، يضع قديح الحقيقة عارية كما هي، بشكل مباشر، فجّ، صادم. حقيقة بوجهين ، تنطلق  كمواجهة بين ممثّلين “وحشيّين” بصدقهما وعريهما الفني: يوسف الخال وعمّار شلق. حقيقة تقول أن ما نعيشه اليوم  من يأس، فساد، سخافة، هشاشة معايير، تمجيد للقشور والمظاهر، غياب المضمون ، كلّه “إنتاج محلي” كما يشير مارك قديح. إنتاج نصنعه نحن بأيدينا قبل أن نرمي اللوم على الخارج. في الفن، تعثّر في الإنتاج، سخافة في المحتوى، هوس بالإثارة والمقبول سياسيا، وسعي دائم لإرضاء منصّات عربية وعالمية ، تحكمها حسابات السوق أكثر مما يحكمها الفن. وفي الوطن، الفساد يلد الفساد، والحروب تتكاثر، والشعب مسروق ومنهوب ومُسحوق ومُخدّر… ومفجور كعاصمته (مفجور من تفجير، لا من فجور).

أين الحل؟ أين الخلاص؟ المسرحية نفسها حلقة مفرغة، دائرة خبيثة تشبه السرطان الذي يأكل اللبناني، فنانا كان أو لا. يدور العرض ساعةً وربع مثل حياتنا تماما: نلفّ وندور حول المشكلة نفسها من دون أن نمدّ يدنا لطوق نجاة. في هذا الدوران، يقدّم قديح مَخرجين:

المَخرج الأول موجّه للجمهور العريض، المتعطش إلى الطرافة  و “فَشّة خلق”، فيقدّم له  قديح  جرعة كبيرة منها( كجائزة ترضية لنقول لكل  من ظنّ أنه بصدد مشاهدة مسرحية ضاحكة وترفيهية فقط لا غير)  عبر مشهديات لاذعة وطريفة، بينها مونولوغ تصاعدي  ليوسف الخال، هو من أجمل لحظات المسرحية، فيه تشريح قاس وطريف للّبناني، وإدانة لكل الفاسدين من خلال عرض سيناريوات نحلم بها ونتمناها جميعا في وعيّنا ولا وعيّنا، للانتقام منهم، رغم انها ” غير مقبولة لا سياسيا ولا اخلاقيا “.

Advertisement
Ad placeholder

المَخرج الثاني لمن يريد الغوص في العمق: أولئك الذين لديهم القدرة والرغبة في الذهاب إلى جذور العطب. هنا يدخل العرض في حياة فقدت رغباتها، وقيم فقدت أساساتها، وفنّ يُصارع كي لا يفقد روحه وسط زمن زائف ومحتوى فارغ.

على الخشبة عبثية، واقعية، ضبابية، وضوح، ثرثرة، يأس، نقمة، سخرية ، ضحك، وجع، اضاءة ، عتمة، اشتعال، انطفاء، موسيقى، رقص ، صوت انفجار، صوت فيروز، صوت الشارع، صوت MK, صوت رصاص، تفاصيل ،  ومَخرّج ثالث اخير. مَخرَج خطّط له  مارك قديح ويوسف الخال منذ البداية: مَخرج يفاجئ عمّار شلق والجمهور معا ، ويمهّد لنهاية تشبه شعبا يبحث دائما عن حلّ يرضي الجميع… إلا نفسه.

إنتاج محلّي» ليست مجرد مسرحية، بل مواجهة حيّة بين الفنان وواقعه، وبين الفن وسوقه، وبين لبنان وصورته المكسورة، وبين ممثلين عملاقين وآسرين بحضورهما واندماجهما في شخصيتين لا تمتّان إلى السهولة بصِلة، رغم أنهما يبدوان وكأنهما وُلدا في هذا الدور. عمّار شلق ممثل يعرف كيف يلتقط أنفاس الجمهور، وكيف يرميه فجأة في قلب العاصفة. لقد قدّم أداءً استثنائيا في دور المنتج الذي يسعى لتسويق عمله، مدركا لعبة الأسواق والمنصّات، ومحاولا الموازنة بين المضمون والمتطلّب، بين الفن والسوق، بين الصداقة والمصلحة. شخصيته المركّبة أضافت طبقة إنسانية واجتماعية عميقة، جعلت الأداء أكثر صدقا وإقناعا، وأكثر تفاعلا مع واقع معقد لا يسمح بالحلول السهلة.

أما يوسف الخال، بدور الكاتب  والمخرج المتمسّك بقيم الفن والساخر من تحويله سلعة تجارية ، فكان حضورا طاغيا، حقيقيا، لا يحتمي بشخصية ولا يختبئ خلف قناع. انفجر على الخشبة بمونولوغات  من أجمل ما قُدّم في المسرح اللبناني مؤخرا. مونولوغات لا تُمثَّل، بل تُنزَع من لحم التجربة. معا، شكّلا ثنائية نادرة: تفاعل، وتفاهم، وتوتّر جميل، جعل العرض ينبض بقلبين لا بقلب واحد. تحية كبيرة لعمّار شلق ويوسف الخال، لأنهما لم يؤدّيا دورا، بل حملا المسرحية على أكتافهما، وسمحا لنا بأن نرى أنفسنا بجرأة لا نملكها في الحياة اليومية.

بفضل موهبتهما، تمكّن الاستثنائي مارك قديح من  ايصال ما يصعب ايصاله . ليس سهلا ابدا تقديم  مسرحية صادقة، جريئة، متعبة الى هذا الحد، ولكن قديح استطاع  ان يُذكّرنا بشكل موجع ومضحك  بأن ما نعيشه اليوم ليس صدفة، بل صناعة داخلية خالصة… وحان وقت الاعتراف بها.

Advertisement
Ad placeholder

“انتاح محلّي” ، انتاج ثلاث مواهب عالميين بقدراتهم ، تعرض حاليا على مسرح الإليزيه الاشرفية.

Continue Reading
Advertisement Ad placeholder
Advertisement Ad placeholder

التقويم

نوفمبر 2025
ن ث أرب خ ج س د
 12
3456789
10111213141516
17181920212223
24252627282930

الارشيف

© كافة الحقوق محقوظة 2023 | أخبار الشرق الأوسط - News Me | تصميم و تطوير TRIPLEA