Connect with us

فن ومشاهير

منى طايع امرأةٌ تكتب دراما تُشبهها وتُشبهنا

Published

on

جوزيفين حبشي

منى طايع، بخطوتها الجريئة في الانتقال من التمثيل إلى التأليف، لم تغادر الفن، بل اقتربت منه أكثر. فبينما كان حضورها على الشاشة محدودا كممثلة، أثبتت نفسها كمحرّكة رئيسية لعجلات الدراما اللبنانية في عصرها الذهبي مطلع الألفية.

Screenshot

هي لم تكن مجرّد كاتبة قصة و حوارات، بل “معمارية حكايات” ، بنت عوالم كاملة تُمثّل فيها المرأة غالبا القوة المحرّكة للأحداث. وبهذا، وجّهت ضربة ناعمة لكن صلبة للدراما الذكورية التي لطالما اختزلت النساء في الهامش. ففي زمن كانت الدراما العربية تصرّ على المرأة “الضعيفة”، اختارت منى طايع أن تُبرز المرأة الصلبة، العاشقة، الثائرة، والمتمرّدة. شخصياتها لا تقبل الظلم، لا تُهادن المجتمع، بل تُجسّد معركتها اليومية من أجل حقّها في الحبّ والكرامة والاختيار. في عالم درامي لطالما هيمنت عليه القوالب الذكورية، اختارت منى طايع أن تسلك طريقا آخر: طريق الحكاية المرويّة من داخل البيت، من داخل الأنثى، ومن قلب المجتمع نفسه. صنعت لنفسها هوية سردية خاصة، وارتقت بفكر المرأة ودورها إلى مصاف البطولة الفعلية لا الشكلية. بدأت كممثلة، لكنها حين أمسكت القلم، اختارت أن تكتب الحكاية من وجهة نظر امرأة متمرّدة، ذات صوت روائي نسائي واضح النبرة، قرر منذ البداية أن يُعيد كتابة المرأة اللبنانية على الشاشة… لا كضحية، بل كمركز فاعل في السرد والحدث، كبطلة حقيقية ، تتألم، تُحب، تعمل، تُخطئ، تُواجه، وتسعى دائما لأن تكون حرّة.

هذا الخطّ النسوي لم يكن شعاراتياً. بل جاء منسوجاً بلغة درامية حسّاسة، تتسلّل إلى اللاوعي، وتثير التعاطف والتساؤل أكثر من الرفض والمواجهة.

Screenshot

واللافت أن الأقلام  التي نجحت في كتابة الدراما والكوميديا بالعمق نفسه والقوة نفسها، قليلة جداً . منى طايع فعلت ذلك، وابدعت  واقنعت في ذلك . في فاميليا ، قدّمت نموذجا عائليا نابضا بالتفاصيل اليومية، مضحكًا دون تهريج، وقريبا من الجمهور دون ابتذال. في “فاميليا”، قدّمت نموذجا غير مألوف لامرأة هي ارملة شابة، وأم ورئيسة تحرير، تكافح على جبهات العائلة والعمل والعاطفة في آنٍ واحد، دون أن تنكسر أو تُهزَم أو تتخلى عن مبادئها. في “بنات عماتي وبنتي وأنا”، رسمت لوحة كوميدية اجتماعية عن نساء قريبات يعشن معا رغم اختلاف طباعهن، في توازن دقيق بين الفكاهة والواقع. في “غنوجة بيا”، قدمت شخصية شابة مرفهة، “غنّوجة” ، ستفقد ثروتها وتُجبر على مواجهة الحياة وحدها، دون أن تفقد كرامتها . بأسلوب كوميدي طريف، عالجت منى طايع كيف يتحوّل الدلال المفرط عبءً ، وكيف يُصبح الفقد دافعا للنضج لا للانهيار.

في أعمالها الرومانسية مثل فارس الأحلام لم يكن الحب غاية فقط، بل وسيلة لفهم الذات والآخر. شخصياتها تحبّ بجنون ، بشغف ، بكبرياء ، بترفّع، تُحبّ ضدّ التيار، أو تحبّ في خضمّ الخسارة.

أما في المسلسل الدرامي الاحب الى قلبي، “عشق النساء”، قدّمت منى واحدا من أنضج أعمالها، حيث تتقاطع مصائر نساء مختلفات الطباع والخلفيات، يُواجهن الحب والخيانة والمرض والتعقيدات الاجتماعية، كل بطريقتها. لم توحّد بينهنّ، بل منحت كل واحدة صوتا خاصا، كأنها تقول إن النساء لسنا زهرة واحدة ،بل بستاناً مليئاً بالاشكال المختلفة، الالوان  المتنوعة والعطور الآسرة.

Advertisement
Ad placeholder

Screenshot

صحبح أن منى طايع ابدعت في مقاربة الواقع ورسم الحاضر  في مسلسلاتها، الا انها أثبتت  ايضا انها  أفضل من استلهم التاريخ لطرح أسئلة معاصرة. في “وأشرقت الشمس” و”أمير الليل”، تناولت الحبّ والتقاليد وسط أزمنة غابرة، حيث تتصارع العاطفة مع القيم العائلية، والحرية مع الالتزام الطبقي. وبينما قد يغرق البعض في التاريخ كزينة، استخدمته طايع كمرآة لرؤية الحاضر من زوايا أعمق.

في “حبيبي اللدود”، استعادت منى طايع حقبة الحرب الأهلية اللبنانية، لا لتغرق في السياسة، بل لتُظهر كيف تفرض الحرب خياراتها على الناس، على الحبّ، على العائلة، وعلى المصير الشخصي. العمل كان أكثر من قصة عاطفية، بل تشريحا اجتماعيا دقيقا للطبقات والانتماءات والتضحيات.

Screenshot

رغم شرارة القوة  التي تجمع كافة الشخصيات النسائية في أعمال منى طايع، على خطوط  الحبّ والحرمان، والتمرّد  والهووس والثورة  والانكسار، ولكنها لم تقع يوما في التكرار. نساؤها بستان كما اشرنا سابقاً ، والبستان متنوّع العطاءات، رغم انه يشرب من الماء نفسها. هذا الاصرار على قوة المرأة حتى في اكثر لحظاتها ضعفا، هو بمثابة استمرارية هاجس كاتبة، نابع من عمق التجربة. وهنا لا بد من القول أن بعض نصوص منى طايع كانت أكبر  حجما وقيمة بكثير  من إخراجها أو إنتاجها. لو توافر  دائما لنصّها الاستثنائي، رؤية اخراجية استثنائية، وانتاج ضخم وواعٍ، كان هذا سيولد في كل مرة تحفة فنية حقيقية.  حينها لا يعود النص مجرّد كلمات، بل يتحوّل عالماً محسوساً، نابضاً بتلك الخصوصية التي جعلته استثناءً منذ البداية. كلنا نعلم أن  الإنتاج الضخم والاخراج المتقن، متى ما أُنجزا بعينٍ فنية ومقاربة تحترم فرادة النص، يصبحا قادرين على تجسيد هذه الفرادة لا كإبهارٍ سطحي، بل كتحقّق بصري وسمعي لمكامن التميّز. اهمّية الاخراج ليست الاضافة  على نص منى طايع، بل اضاءته من الداخل. اهميّة الإنتاج لا تُقاس بضخامته فقط، بل بمدى قدرته على ترجمة الخصوصية الكامنة في النص وتحويلها إلى تجربة ملموسة. الإنتاج الجيد لا يُغرق النص، بل يرفعه، ويمنحه الوسائط التي تعزز تفرده دون أن تُشوّهه. وهذا ما نتمناه تحديدا لنصوص منى طايع القادرة على منح الدراما اللبنانية اجنحة تحليق اعلى واوسع  .

فكما نعلم وتعلمون، منى طايع  ليست نصيرة المرأة وحسب، بل  ونصيرة الدراما اللبنانية الخالصة . رفضت الذوبان في تجارب عربية  أو غربيّة مستوردة، وقررت أن تكتب عن بيئتها كما هي: بلهجتها، بصراعاتها، بأحلام ناسها. قدّمت دراما تحترم جمهورها وتُراهن على وعيه، فتارة تضحكه، وتارة تدمعه، لكنه دائماً يخرج منها محمّلاً بشيء من نفسه. قدمت دراما لبنانية لا تشبه غيرها، نابعة من بيئة محلية ، لكن بطموح إنساني واسع. حفرت اسمها في ذاكرة المشاهدين ليس فقط عبر العناوين، بل عبر الشخصيات التي لا تُنسى، والحوارات التي لا تزال تُقال حتى اليوم. في مسيرتها، وقفت في صف المرأة صحيح، لكنها لم تكتب لها فقط، بل كتبت عنها وعن المجتمع من حولها. كتبت عن الحبّ والخسارة والتمرّد والوفاء، والظلم ، لكن دوماً من موقع الصدق، ومن قلب امرأة تفهم تماما ما تعنيه الحرية. منى طايع كتبت عنّا،  عن المرأة، عن الانسان ، فقرأنا أنفسنا… وصدقناها.

Screenshot

Continue Reading
Advertisement Ad placeholder
Advertisement Ad placeholder

التقويم

سبتمبر 2025
ن ث أرب خ ج س د
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930  

الارشيف

© كافة الحقوق محقوظة 2023 | أخبار الشرق الأوسط - News Me | تصميم و تطوير TRIPLEA