Connect with us

فن ومشاهير

جوزف بو نصار: باني الدور ، ساكن الشخصية

Published

on

جوزيفين حبشي

ما أكثرها الوجوه وما أقلّها  البصمات في زمننا الحالي. ومن هذه القلة القليلة، يبقى جوزف بو نصار من الذين لا يمكن المرور بهم مرور الكرام. رجل لا يبحث عن الأضواء، لكنها تأتي إليه مطأطئة الرأس، احتراماً لتاريخه وحضوره وصدقه. فالفن عنده ليس حرفة تُمارَس، بل تجربة وجودية تُبنى حجراً حجراً، تماماً كما “يُعمّر” هو شخصياته.

منذ خطوته الأولى على الخشبة، حين انطلق مع منير أبو دبس، بدا  أن هذا الرجل لا يسير على طرق معبّدة. سافر إلى بولندا ليغوص في أعماق المسرح الجوهري مع غروتوفسكي، ثم إلى باريس ليصقل التجربة بالمعرفة. لكنه لم يبقَ هناك؛ عاد إلى بيروت، حاملاً في صوته وأدائه خلاصة الرحلة، ليؤسس فرقته الخاصة ويقدّم أعمالاً مسرحية تُشبهه: صامتة في الغرور، صارخة في الصدق.

Screenshot

في كل إطلالة له، يحمل على كتفيه خمسة عقود من الالتزام الفني. التزام لا يقوم على كثرة الأعمال بل على نوعيتها. لم يكن ظهوره صاخباً، بل متّزناً كحركته على الخشبة. جوزف بو نصار هو ذلك الممثل الذي لا “يدخل” إلى الدور، بل “يُصغي” إليه. لا يعيد تدوير مشاعره، ولا يستعير من الأدوار السابقة. لكل شخصية تاريخها، لغتها، وملامحها الخاصة. وكأنه مهندس يبني بيتاً جديداً في كل مرة، لا يستعير أبواب البيت القديم ولا نوافذه، بل يبتكرها من جديد، لأن الشخصية تستحق ذلك.

ليس من السهل أن يكون الممثل مقنعا في النقيضين: في القسوة والحنان، في الجبروت والضعف، في الكوميديا والدراما. لكن جوزف بو نصار يجتاز هذا التحدي بثقة. نصدّقه حين يكون أباً، كما نصدّقه حين يكون جلاداً.

Screenshot

في “راحوا”( نص كلوديا مارشليان، اخراج نديم مهنا) كان أباً حنونا ، طريفاً،  يمشي على شفير الفقد، يحاول أن يُعوّض لبناته غياب الأم، بينما هو نفسه لا يزال يحمل وجع فقدها. لم يحتج إلى كلمات كثيرة، فقد تكفّل صوته ونظراته بتوليد العاطفة فينا. وفي الجهة الأخرى من الطيف، فاجأنا في “أشرقت الشمس” ( نص منى طايع، اخراج شارل شلالا) بأدائه لشخصية الشيخ عبد الله، الإقطاعي الجبلي المتسلّط والقاسي، المتشبث بسلطة العائلة والتقاليد. وبرغم الجبروت، لم يفقد الشخصية عمقها الإنساني، بل منحها بُعدا تجاوز الأبيض والأسود.

Screenshot

في أعماله التلفزيونية، ترك بصمات راسخة، لا بصوته الآسر  فقط، بل بذلك العمق الذي يزرعه في كل شخصية.

هو ممثل يُجيد الإنصات للشخصيات، يعرف من أين يُمسك بها، كيف يمنحها قلبه ثم يتركها تتكلم. من الباشا في “نضال” حيث قدّم مشهدية لصراع القلب والسلطة،  إلى كرم بك في “الشقيقتان”، إلى الجنرال في “تاج”، تتبدّل الملامح واللهجة والانفعالات، لكن الثبات الوحيد هو الصدق”.  في “الهيبة: الحصاد” برهن على قدرته على التكيّف مع إيقاع الأعمال الجماهرية من دون أن يفقد جوهره، وفي “بردانة أنا”، حمل وجع الخيانة  بصمتٍ داخلي مؤلم . ومن دور الى دور، ومن شخصية الى اخرى، جوزف بو نصار يمكن أن يكون طيّباً، حنوناً، مضحكاً، أو قاسياً، مخيفاً، غامضاً ،  ومع ذلك، نصدّقه دائماً. لأنّه، ببساطة، لا “يُمثّل” الشخصية، بل يسكنها.

Advertisement
Ad placeholder

Screenshot

جوزف بو نصار ليس ابن مسرح ودراما تلفزيونية وحسب، هو ابن السينما ايضا.  صحيح لم يكن جوزف بو نصار غزير الظهور في الفن السابع، لكنه شارك في  تسعة افلام ( بين لبنان  وايطاليا وكندا) ، وكعادته، اختار أن تكون مشاركاته مفصلية. فلم يكن مجرد ممثل في مشهد، بل صوتاً داخل الصورة، وحضوراً  يملأ الإطار بما يتجاوز  الحوار.

في “بيروت يا بيروت” (1975) لمارون بغدادي، كان جزءا من تجربة سينمائية تُقارب وجع المدينة وتاريخها، تماما كما تُقارب الإنسان الممزق بين ذاكرته وتحوّلاته. كان هذا الفيلم أحد أوائل الأعمال التي نقلت بيروت من صورة البطاقة البريدية إلى عمق المدينة الجريحة، وكان بو نصار حاضرا في قلب هذه الرحلة، ممثلا حقيقياً للقلق الوجودي الذي يحمله كل لبناني.

Screenshot

ثم، بعد أكثر من عقدين، ظهر في فيلم ” وست بيروت” (1998) لزياد دويري، العمل الذي أعاد السينما اللبنانية إلى الواجهة بعد الحرب، بمنظور مختلف، طفولي وحقيقي، غاضب ومحب. وقد ساهم حضور بو نصار في ” وست بيروت” في خلق المناخ الذي يحرّك الحكاية من دون أن يسرق منها الضوء. واللافت أن مشاركته في “West Beirut” لم تكن مجرد عودة إلى الشاشة الكبيرة، بل كانت عودة بصوتٍ مدوٍ، أكسبته شهرة من نوع خاص، لأن الفيلم نفسه تحوّل إلى مرآة جيل كامل، وجاء أداء بو نصار فيه بمثابة توقيع أصيل في صفحة من تاريخ السينما اللبنانية. اعماله السينمائية عديدة، وفي كل فيلم منها، لا يعلو صوته، بل يحفر حضوره في ذاكرة المشاهد. وهذا هو جوهر السينما: ليس أن تكون دائم الحضور  في اللقطة، بل أن تبقى بعدها.

Screenshot

المميّز عند جوزف بو نصار  أن نظرته إلى واقع الفن، واقعية مئة بالمئة، لا تائهة في حنينٍ ماضٍ ولا منبهرة بمستقبلٍ مجهول. يعرف أن الزمن تغيّر، وأن المعايير اختلفت، لكنه لا ينهزم  أمام الحنين ولا يستسلم للإحباط. يقف جوزف، مثل سيزيف، يدفع صخرته كل يوم، ويعود وإن سقطت.وسيزيف، في الأسطورة الإغريقية، هو ذاك الرجل الذي عوقب بأن يدفع صخرة ضخمة إلى أعلى جبل، لكنها ما إن تقترب من القمة حتى تتدحرج من جديد، فيعود فيكرر المهمة إلى الأبد. تحوّلت أسطورته لاحقاً إلى رمز للإنسان الذي يُجابه العبث بالإصرار، ويُواصل الكفاح رغم علمه بأن النتيجة قد لا تأتي. هكذا يبدو  جوزف بو نصار في علاقته بالمسرح والفن، لا يراهن على نتائج فورية، بل على القيمة نفسها في أن يواصل الدفع، أن يُبقي شرارة الفن مشتعلة في بلد يطفئ النور كلما أضاء.

Screenshot

جوزف بو نصار، بعد كل هذه السنوات، لا يزال ممثلاً يبحث عن الجوهر. لا تغويه الأضواء، ولا تُرعبه العتمة. يسير في درب الفن كما لو أنه درب داخلي نحو السلام، لا نحو المجد. صوته لا يزال يحتفظ بتلك النبرة التي لا تُنسى، ونظرته لا تزال تحمل ذكاء الباحث، لا غرور النجم.

Continue Reading
Advertisement Ad placeholder
Advertisement Ad placeholder

التقويم

سبتمبر 2025
ن ث أرب خ ج س د
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930  

الارشيف

© كافة الحقوق محقوظة 2023 | أخبار الشرق الأوسط - News Me | تصميم و تطوير TRIPLEA