ثقافة
نجوم الأمل والألم: قصة حب لا تنجو من بيروت… ولا تريد
جوزيفين حبشي
بيروت ، البطلة الاولى في فيلم سيريل عريس ” نجوم الأمل والألم” a sad and beautiful world ليست خلفيّة، ليست مكانا، إنها قدر. ومثلها تماما، الفيلم لا يُشاهَد، بل يُعاش… فيلم يولد من رحم التناقض، ويتنفسه، ويتركك بعد نهايته المفتوحة، معلّقا بين ابتسامة واسعة وغصّة لا اسم لها.

Screenshot
يقدّم الكاتب والمخرج سيريل عريس في أوّل أفلامه الروائية الطويلة ، تحيّة شديدة الخصوصية لبيروت: مدينة لا تعدك بشيء، لكنها تعطيك كل شيء دفعة واحدة. هنا، الحب ليس ملاذا آمنا، بل فعل مقاومة. والضحك ليس خفّة، بل طريقة للبقاء على قيد الحياة. الكوميديا السوداء في الفيلم لا تُستخدم للزينة، بل كآلية دفاع جماعية، كضحكة ترتجف فوق هاوية مفتوحة. بهذه الروح تحديدا، يولد فيلم سيريل عريس الأول، لا كحكاية تُروى، بل كنبض يُصغى إليه. “نجوم الأمل والألم” لا يتعامل مع بيروت كمسرح للأحداث، بل ككائن حيّ، يتنفّس داخل الشخصيات، ويقود مصائرها، ويقسو عليها بقدر ما يمنحها لحظات فرح عابرة.

Screenshot
الفيلم هو كوميديا سوداء رومنسية، لكن هذه التسمية لا تكفيه. هو ضحكة عالية في وجه العبث، ورسالة حب مكتوبة بخطٍ مرتجف، كأنها كُتبت أثناء اهتزاز الأرض. هنا، الحب ليس خلاصاً، بل محاولة مستمرة للنجاة، فعل عناد صغير في وجه تاريخ لا يتوقف عن الانهيار.
قصة نينو ( حسن عقيل) وياسمينة ( منية عقل) ليست حكاية رومنسية تقليدية، بل سيرة جيل كامل وُلد تحت القصف، كَبُر على الأمل المؤجّل، وتعلّم كيف يحبّ وهو ينظر بعينٍ إلى المستقبل وبأخرى إلى الخراب. نينو وياسمينة لا يلتقيان صدفة فقط، بل يولدان من الصدفة نفسها: دقيقة واحدة تفصل بين ولادتهما تحت القصف. منذ تلك اللحظة، يبدو أن حياتيهما محكومتان بمنطق هذا البلد: كل شيء ممكن، ولا شيء مضمون. صداقتهما الأولى، أحلام الطفولة، الجزيرة المتخيّلة التي وعدها بالهروب اليها… كلها أشبه برسائل تُكتب على الرمل، تعرف مسبقًا أن الموج سيأتي. كلها تعبير صادق عن عبثية العيش في بلد تحكمه المصادفات أكثر مما تحكمه الخطط. يمرّ الزمن، يتفرّقان، ثم تعيدهما الحياة إلى بعضهما البعض كما تعيد بيروت أبناءها دائما، لا بدافع الحنين وحده، بل لأن بعض الروابط لا تنفصم، مهما طال الخراب. تنمو الرومانسية بينهما ببطء، بحذر، كزهرة تشقّ الإسفلت. ليست علاقة حالمة، بل علاقة مثقلة بالماضي، بالأسئلة، وبالخوف من الغد.

Screenshot
الفيلم يتحرّك بحرّية بين الأزمنة، كما تتحرّك الذاكرة اللبنانية نفسها: بلا ترتيب، بلا شفاء كامل.لا خطّ مستقيم هنا، بل شظايا، ومقاطع، وارتدادات عاطفية.لحظات الفرح تأتي فجأة، صاخبة، مشبعة بالطعام والموسيقى والرقص والكلام العالي، ثم تنسحب بهدوء، تاركة فراغا يعرفه كل من عاش في هذه المدينة. هنا، لا يقطع الواقع الحلم، بل يتسلّل إليه ببطء، حتى يصبحا شيئا واحدا.

Screenshot
نبرة الفيلم تبدأ خفيفة، ساخرة، شبه احتفالية، قبل أن تتعرّى تدريجيا من وهمها. ومع كل تحوّل، نشعر بثقل السنوات، بثقل الخيبات المتراكمة، وبالإرهاق الوجودي الذي يصيب شخصياته كما يصيب بلدا بأكمله.
من خلال صوت ياسمينة، يطرح الفيلم أحد أكثر أسئلته قسوة: هل يستحق هذا العالم أن نمنحه أطفالا؟ السؤال لا يأتي كفكرة فلسفية، بل كجرح مفتوح وألم شخصي لطفلة كبرت وهي تخلط بين الألعاب النارية وأصوات القصف والقنابل، وبين الرحلات العائلية والهروب السريع من مدينة قد يبتلعها البحر .

Screenshot
في مقابل عقلانية ياسمينة المتعبة، يقف نينو بقلبه المفتوح، بعاطفته الفوضوية، بإصراره شبه الساذج على الإيمان بالحب، وبالحياة، وبأن المطعم العائلي يمكن أن يبقى مساحة دفء وسط العاصفة. يؤمن بالحب كما يؤمن أهل هذه المدينة بالحياة: رغم كل شيء، وضد كل منطق. هذا التناقض لا يصنع صراعا بين شخصيتين فقط، بل يعكس الانقسام الداخلي لكل لبناني: بين من يريد النجاة، ومن يصرّ على البقاء.

Screenshot
اخراج سيريل عريس يتّسم بثقة لافتة، لا يستعرض المأساة، بل يتركها تتسلّل. المونتاج النابض يمنح السرد غير الخطي إيقاعا حيّا أقرب إلى نبض القلب منه إلى الحسابات التقنية. أما الكيمياء بين منية عقل وحسن عقيل فهي العمود الفقري للفيلم: علاقة تشعر بأنها عاشت قبل الكاميرا وستستمر بعدها. أداؤهما يحمل هشاشة نادرة، ويمنح الشخصيات صدقا لا يمكن افتعاله ،وصمت يقول أكثر مما تقوله الكلمات. وتأتي الشخصيات المساندة كمساحات تنفّس: مضحكة، حنونة، عصبية، تشبه ناس الشوارع والمطابخ والبيوت التي نعرفها.مع اشادة خاصة بكل من الكبيرين رغم صغر دوريهما كميل سلامة وجوليا قصار، والممثلة الصغيرة سنّاً والمبشّرة بموهبة اكبر بكثير من عمرها، فالنتينا الهاشم، في دور ابنتهما.

Screenshot
“نجوم الأمل والألم” ليس فيلما عن لبنان فقط، بل عن الحب حين يُوضَع تحت اختبار التاريخ، وعن الرومانسية حين تُجرَّد من أوهامها وتُترك عارية أمام الواقع. هو عن العيش على الحافة، عن محاولة الإمساك بلحظة جمال قبل أن تنهار، وعن الإيمان بأن الأمل ،حتى حين يكون موجعا، يظلّ أهون من الاستسلام. هو فيلم يعرف أن الأمل في هذا المكان يأتي ممزوجا بالألم، ومع ذلك، يصرّ على التمسك به. وفي النهاية، يشبه هذا العمل بيروت تماما: متناقض، جميل على نحو موجع، مضحك رغم كل شيء، ويترك في القلب أثرا لا يزول.
الفيلم الذي رشحه لبنان لتمثيله في الاوسكار، وفاز بجائزة الجمهور في مهرجان البندقية ، وبجائزة اليسر لأفضل سيناريو في مهرجان البحر الاحمر السينمائي الدولي قبل ايام، سيُعرَض في الصالات اللبنانية ابتداءً من منتصف شهر كانون الثاني 2026، فإياكم أن تفوتوه عليكم.

Screenshot
