Connect with us

ثقافة

الموت.. بالألوان

Published

on

أقيمت في المكتب الثقافي المصري بموسكو ندوة بعنوان “معاني الألوان في اللغة والأدب العربيين”، وذلك عبر ورقة بحثية أعدتها وأشرفت على إلقائها المستشرقة، السيدة فيرا سيرغييفنا موروزوفا.

تعد السيدة فيرا موروزوفا متخصصة في اللغة العربية، ودافعت عن أطروحة بعنوان “الخصائص الهيكلية والدلالية في اللغة الأدبية العربية”. واصلت فيرا سيرغييفنا تحصيلها العلمي والعملي بدورة تأهيل في جامعتيّ القاهرة وعدن، وقد انتسبت للعمل في معهد الاستشراق عام 1996، ونشرت العديد من المؤلفات في مجال اختصاصها.
تمت هذه الندوة تحت رعاية أستاذ النحت بكلية التربية الفنية، جامعة حلوان الدكتور، أسامة السروي، المستشار الثقافي ومدير مكتب البعثة التعليمية المصرية في روسيا، وبمشاركة مديرة الندوة، المستعربة والباحثة الروسية، آنا بيليكوفا، مؤسسة نادي “الاستشراق”، في حضور لفيف من المتابعين لنشاط النادي، وعدد من المهتمين بالثقافة العربية من العرب والروس.
بدا عنوان الندوة مربكا، وظل الأمر محاطا بالفضول الممزوج بالإحساس بالغموض، إلى أن أُعطيت الكلمة للسيدة موروزوفا، التي تحدثت فيها عن رمزية الألوان في اللغة العربية، بما في ذلك من خلال اقتباس رواة عرب، كالأديبين اليمني، محمد عبد الولي، والمصري، يوسف إدريس.
هناك مفاهيم مرتبطة بألوان معينة تبرز تناقضات دلالية، كما هو حال اللون الأحمر. فهذا اللون قد يرمز إلى الحب والرومانسية، وإلى العنف والدموية.. والحظر أيضا، وهو ما عبّرت عنه صورة عُرضت في الندوة، ظهر فيها قلب وإشارة مرورية تضيء باللون الأحمر، فبدا وكأن اللوحة تحمل رسالة فحواها “ممنوع الحب”.
وأشارت الباحثة موروزوفا إلى اللون الأحمر في الثقافة الروسية، والذي يرمز إلى الجمال، وبه توصف الحسناوات في روسيا، كما تُسمى به الساحة المركزية في قلب موسكو.. الساحة الحمراء أي “الجميلة” في اللغة الروسية قديما.
أما اللون الأحمر في ثقافتنا العربية فيبدو أنه إشارة إلى سفك الدماء، وذلك لارتباطه ببيت الشعر الذي قاله الشاعر صفي الدين الحلي: “بيض صنائعنا سود وقائعنا خضر مرابعنا حمر مواضينا”، الذي اتخذ مرشدا لتحديد ألوان راية الثورة العربية، لتستوحى منها أعلام العديد من دول الشرق الأوسط.
ولارتباط هذا اللون بالدم، شخصيا أكاد لا أطيق أي علم يحتوي على اللون الأحمر، لما يحمله من رمزية إلى السلطة أو بالأحرى التسلط، ناهيك عن رمزيّته للدماء التي تُسفك في سبيل الوطن، سواء أكانت دماء أبناء هذا المُسمّى وطنا أو دماء أعدائه، لذا فإن الأعلام الأجمل في العالم، من وجهة نظري، كلوحة فنية بعيدا عن أي اعتبارات سياسية، هي تلك التي لا تحتوي على هذا اللون.. وربما البرازيلي أجملها.
وبالعودة إلى الندوة.. فقد أشارت فيرا موروزوفا إلى أحاسيس ومشاعر ودلالاتها عند العرب بالألوان.. ليكتشف المتابعون، ومن بينهم كاتب هذه السطور، أن الخوف الشديد يُرمز له بلون محدد فيُقال “الخوف الأزرق”، وكذلك الحال بالنسبة لـ “المكر الأزرق” أي حدة الدهاء، مع الإشارة إلى أن العرب كانوا يصفون أشد العداء بالأزرق، لارتباط هذا اللون بعيون الروم، أو غير العرب عموما.. لأتذكر على الفور لون العلم الإسرائيلي بنجمته السداسية الزرقاء.. وإن كان وصف إسرائيل بالعدو الآن لم يعد يحمل ذات المعنى، الذي كان يحمله قبل التطورات الأخيرة التي يشهدها عالمنا العربي.. إلا أن هذا موضوع بحث آخر.
ولكن، ودفاعا عن اللون الأزرق، تحدثت السيدة لينا غيمون، الإعلامية في قناة RT العربية، عن الخرزة الزرقاء، مذكرة بأنها تحمل معنى إيجابي في مواجهة العين الزرقاء.. عين الحسد، كما تطرقت إلى بعض اللهجات العربية التي تستخدم اللون في السؤال عن الأحوال “شلونك؟”. أما اللون الأخضر فهو لدى العرب رمز للحياة، لارتباطه بالخضرة النادرة في الصحراء، حتى أن الماء العذب يوصف بالأخضر.. ما ذكرني، لوهلة، بلون مشروب الكوكولا الأصلي أخضر اللون.

حينما يتحول الموت إلى لوحة فنية

كان “الموت” أيضا حاضرا في هذه الندوة، إذ كشفت فيرا موروزوفا للحضور، أن اللون قد يرمز إلى ماهية أو حالة الموت، ليتبيّن أن للموت، بالإضافة إلى الأشكال، ألوانا أيضا. فـ “الموت الأبيض” هو حالة الوفاة الطبيعية، بينما “الأحمر” فهو الناجم عن العنف، فيما “الموت الأسود” يتأتى نتيجة للاختناق. كانت هذه الفقرة لافتة للخيال الواسع الذي يتمتع به العرب، حتى أنهم جعلوا من مفهوم سوداوي كالموت لوحة فنية.. لا تخلو من إبداع.
لكن هناك حالة مثيرة للأسف الشديد، تحول فيها اللون، في ثقافتنا العربية، إلى انعكاس لفكر يحمل عنصرية، أو هو ربما انعكاس لمفاهيم ترسخت في أذهان الكثير منا، دون أن يعيرها هؤلاء اهتماما، وهي وصف ذوي البشرة السوداء بلفظة “العبد”، حتى أن هذه المفردة باتت في عُرف الكثيرين مرادفا للون الأسود.. وهو ما سلّطت عليه قناة تلفزيونية الضوء.
 

 
عذرا.. القارة سوداء وليست سمراء.
بالإضافة إلى ما تقدم، هناك سلوكيات تفوح منها العنصرية، لا سيما إزاء ذوي البشرة السوداء، على غرار المثل العربي الشائع: “قرشك الأبيض ليومك الأسود”. من جانب آخر نستشعر نحن العرب الحرج بإطلاق مُسمّى القارة السوداء على إفريقيا، لذا نفضل أن نصفها بالقارة السمراء! يبدو ذلك محاولة لعدم الإساءة لذوي البشرة السوداء، وكأن ذكر اللون الأسود بالقول “القارة السوداء” أمر مشين ومهين، ما يجعل اعتماد مصطلح “أسمر” محاولة بائسة لتفادي إحراج لا وجود له، من خلال أسلوب “لبق” يعزز العنصرية لا يحاربها. ومن الجدير بالذكر هنا أن إفريقيا باللغة الروسية توصف بالقارة السوداء.

هل سيصل بنا الأمر إلى تغيير اسم دولة الجبل الأسود إلى الجبل الأسمر؟


ثمة حالة تبدو غريبة تتعلق بكاتب هذه السطور، وهي الألوان التي تتبادر إلى ذهني، حينما أتذكر كل عشر سنوات ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، علما أنني أدرك سبب ارتباط بعض عشريات القرن الماضي بلون محدد، ولا أدرك سبب ارتباطها بلون آخر.
فعلى سبيل المثال، لا أعلم سر ارتباط الثلاثينيات باللون الأخضر، ولكن من جانب آخر، يبدو من الطبيعي أن أرى حقبة الأربعينيات ملطخة باللون الأحمر، إذ غرقت أوروبا وأجزاء من العالم في الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن أن تلك العشرية شهدت ميلاد إسرائيل الذي رافقته أحداث دموية أسفرت عن سقوط ضحايا من العرب واليهود.
أما الخمسينيات، ولا أدري لماذا، فأراها كحلية اللون والستينيات بنيّة، فيما الثمانينيات زرقاء سماوية اللون. أما حقبة التسعينيات، فهي سوداء قاتمة، لأسباب تبدو مفهومة، تتعلق بالفترة السوداوية التي عاشتها روسيا الفتيّة، أو ربما روسيا الفتوّة آنذاك، حيث كان عنوان تلك المرحلة القاتمة هو “البقاء للأقوى”، وهو ما وافقتني الرأي بشأنه السيدة موروزوفا.
وردا على سؤال إحدى السيدات من الحضور عن لون العشرية بداية الألفية الثالثة بالنسبة لي، قلت إنها شفافة تماما حتى الآن، وقد تكتسب لونا ما بإعادة النظر إليها عن بُعد بعد حين.. علما أن العشرية الحالية ترتبط في ذهني، ولا أدري لماذا، باللون الأجمل من وجهة نظري وهو البنفسجي.
أما فترة السبعينيات من القرن الماضي، فارتأيت أن أخصص لها فقرة منفصلة، لأنها فترة الطفولة التي بدأت تتبلور فيها مفاهيم ما، خاضعة للتغيير بطبيعة الحال. هذه الفترة هي الأزهى لارتباطها بالشمس والصحراء ورمالها الذهبية، والصيف شبه الدائم في الكويت، حيث وُلدت وعشت. كما أنه لون الزي الرسمي لنادي “القادسية”، الذي يبعد خطوات عن الحي الذي عشت فيه في الكويت، التي كانت تُسمّى في حينه بـ “دانة الخليج”، إذ شهدت البلاد ذاك العصر الذهبي الذي حملت الكويت رايته الخليجية قبل أن تلتقطها دول أخرى.. إلا أن الكويت تظل في ذاكرة كل من وُلد وعاش فيها دانة الخليج وإلى الأبد. كما أن الأصفر هو لون المنتخب البرازيلي الذي كان الأشهر في تلك الفترة المرافقة للطفولة.. أضف إلى ذلك أن أهم الإبداعات الموسيقية، عربيا وغربيا، شقت طريقها إلى العالم في فترة السبعينيات، التي شهدت ولادة أعمال موسيقية خالدة تحولت إلى كلاسيكيات بالنسبة لجيلي.. ما يعزز نظرية في علم النفس مفادها أن اللون الأصفر “يعكس الفرح والاستمتاع، كما أنه يحفز الخيال والإبداع، فهو ينشط الجانب الفني في الدماغ”.
وأخيرا.. كانت هذه الندوة من الندوات الأجمل، إذ وسّعت آفاق من حضرها، بفضل المعلومات الغزيرة التي احتوتها، بمن في ذلك للعرب الذين تعلموا شيئا جديدا عن ثقافتهم.. وكاتب هذه السطور، دون شك، أحدهم.
علاء عمر

Advertisement
Ad placeholder
Continue Reading
Advertisement Ad placeholder
Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Advertisement Ad placeholder

التقويم

نوفمبر 2024
ن ث أرب خ ج س د
 123
45678910
11121314151617
18192021222324
252627282930  

الارشيف

© كافة الحقوق محقوظة 2023 | أخبار الشرق الأوسط - News Me | تصميم و تطوير TRIPLEA